المواضيع الأخيرة
بحـث
سحابة الكلمات الدلالية
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
مدير المنتدى | ||||
أسير القافية | ||||
ونشريس | ||||
محب العلماء | ||||
هويدا | ||||
حمداوي عبد الرحمان بن قاس | ||||
شوقي نذير | ||||
الأصيل | ||||
تحيا الجزائر | ||||
عبدالله بن حامو |
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 8 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 8 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحثلا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 53 بتاريخ الأحد 14 أبريل 2019, 17:47
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 1352 عُضو.آخر عُضو مُسجل هو روفي فمرحباً به.
أعضاؤنا قدموا 3419 مساهمة في هذا المنتدى في 1524 موضوع
نظرية الأدب عند العرب ـــ د.مصطفى العلواني
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
نظرية الأدب عند العرب ـــ د.مصطفى العلواني
بسم الله و الصلاةو السلام على رسول الله
أما بعد:
لم يعن العرب بالبحث في نظرية الأدب حتى في أوج ازدهار حركتهم النقدية، وكان جل همهم ينحصر في تعريف الشعر ووضع مبادئ وقواعد النقد والمقولات أو التفسيرات المختلفة التي تتعلق بالدافع إلى قول الشعر.
ونظرية الأدب مصطلح ظهر في الغرب وعولج معالجة وافية في أدبياته. وقد أكد الدكتور حسام الخطيب. أن الاهتمام بها قديم عندهم وضارب في جذور التاريخ(1) كما بين أن البحث فيها ظل يرتكز حتى الآن على سؤالين أساسيين هما السؤال عن طبيعة الأدب والسؤال عن وظيفته. وبالرغم من الخلاف الدائر بين التيارات الأدبية المعاصرة في الأدب الأوربي فقد قاد التركيز على المسألة الأولى وهي طبيعة الأدب إلى النظرية الشكلية في حين أن التركيز على وظيفة الأدب قاد إلى النظرية الأخلاقية.
وقد وضح مؤلفا كتاب نظرية الأدب(2) أن أول مشكلة تعرض في طبيعة الأدب تتعلق بأمرين، هما ما الذي يعد أدباً وما الذي لا يعد أدباً؟ وثانيهما طبيعة الأدب. وقد ناقشنا ذلك مناقشة مسهبة ووضعا حدوداً تفصل بين الأدب وغيره. أما فيما يتصل بوظيفته الأدب فقد عالجا آراء عدة وقاما بتفحص المفهومات المتعلقة بوظيفة الأدب والتي تتحلق حول كلمة "التطهير" منذ أن نص عليها أرسطو في كتابه "فن الشعر" حتى أيامنا هذه.
وبالرغم من أن لكل أدب خصوصيته وأسبابه ودواعيه فإن مفهوماً مثل طبيعة الأدب ووظيفته قد يثير الاهتمام لدى الدارس العربي. لذلك من المجدي أن نتلمس لدى الشعراء والأدباء والنقاد العرب حدود هذين المفهومين عند معالجتهم للقضايا والأبعاد الأدبية والنقدية المتصلة بذلك و أن نقف عليهما من خلال الشعر والمقولات المختلفة. وعلى هذا فسوف يتحدد هدفنا من هذا البحث بالوقوف على هذين المفهومين من خلال خصوصية الإنسان العربي الشعرية حتى نتمكن من تحديد نظرية الأدب عند العرب. وهذا يقتضي أن نبحث فيما يلي:
1-طبيعة الشعر عند العرب.
2-وظيفة الشعر عند العرب.
ونظراً للمكانة التي احتلها الشعر عند العرب والمساحة التي أخذها في حياتهم من بين سائر الأجناس الأدبية فإنه قد جرى تحديد البحث في هذين المفهومين على الشعر فقد كان ديوانهم منذ القديم وسكب روحهم ومتنفسهم وملاذهم في كل مجال. ولعل منهجية البحث تدفعنا إلى تحديد الفترة التي نبحث فيها عن هذين المفهومين وقد يكون من المفيد أن تحدد بالفترة التي توهج فيها النقد وازدهرت حركته بغض النظر عن التحديد الجغرافي فالزمن يبدأ على التقريب من القرن الثاني للهجرة حتى الثامن، والمساحة تمتد لتشمل المغرب العربي والأندلس.
وهذا لا يمنعنا من أن نعود إلى ما قبل القرن الثاني أو نستعين بآراء النقاد المحدثين في تأييد رأي أو نفي آخر.
القسم الأول: طبيعة الشعر عند العرب:
نهتم في هذا المجال بما يتعلق بطبيعة الشعر وحدوده ومقوماته على تقدير أنه يندرج تحت مفهوم الغربيين عند تفريقهم بين الأدب وغيره ومناقشتهم لطبيعته ومقوماته.
يعد تعريف قدامة بن جعفر للشعر من أقدم التعريفات التي خرج بها النقاد العرب إلى الوجود وقد عرف قدامة الشعر بأنه "قول موزون مقفى يدل على معنى"(3) فكلمة قول بمنزلة الجنس وموزون فصل له عما ليس بموزون ومقفى فصل عما هو موزون ولا قوافي له ودال على معنى فصل له عما يكون موزوناً ولا يدل على معنى. وعلى هذا فقد استطاع قدامة بن جعفر أن يرسم حدود الشعر ويبين أن ما وقع ضمن هذه الحدود يعد شعراً وما خرج عن هذه الحدود لا يعد شعراً وقد جرى النقاد والدارسون على هذا التعريف ولكن بين زائد عليه وموضح له ومؤكد على حدوده فقد بين الفارابي أن العرب أكثر الأمم اعتناء بنهايات أبياتهم إذ يقول "إن العرب من العناية بنهايات الأبيات التي في الشعر أكثر بكثير من الأمم التي عرفنا أشعارهم"(4) كما جاء ابن سينا في تعريفه للشعر مؤكداً على الوزن والقافية حيث يقول "الشعر كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية وعند العرب مقفاه"(5) وفي العمدة لابن رشيق القيرواني مباحث خاصة بالقافية والوزن فقال "الوزن أعظم أركان حد الشعر وأولاها به خصوصية"(6) وفي مكان آخر من العمدة يقول "والقافية شريكة الوزن في الاختصاص في الشعر ولا يسمى شعراً حتى يكون له وزن وقافية"(7) وكان الجاحظ يقول أو يرى أن الوزن هو السر المعجز في الأدب العربي(8) وقد ذهب الفارابي إلى أن الشعر يبطل أن يكون شعراً إذا خلا من الوزن. فقال "إن الشعر إذا خلا من الوزن بطل أن يكون شعراً والأصح أن يسمى عند ذلك قولاً شعرياً"(9) وقد عرف المعري الشعر "بأنه كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إن زاد أو نقص أبانه الحس"(10) ولم يكتف العرب بالتشديد على الالتزام بالقافية بل دعوا إلى العناية بها وتهذيبها فإنها مركز البيت وأشرف ما فيه فقد قال الحاتمي "وسبيل الشاعر أن يعنى بتهذيب القافية فإنها مركز البيت"(11) كما قال أحد النقاد العرب القدماء "استجيدوا القوافي فإنها حوافر الشعر أي أنها أشرف ما في البيت لأن حوافر الفرس هي أوثق ما فيه وبها منهوضه وعليها اعتماده".
وفي الأدب الغربي بغض النظر عن شخصية كل أدب فقد تم التأكيد على عدم تجاهل معنى النظم في نظرية الأوزان. ويورد صاحبا كتاب نظرية الأدب رأي واحد من أفضل علماء الوزن الموسيقي وهو "جورج ستيورات" مدللين على أهمية الموسيقا في هذا المجال إذ يقول "أن النظم يمكن أن يوجد دون معنى ما دام الوزن مستقلاً استقلالاً جوهرياً عن المعنى فإن لنا الحق في أن نحاول إعادة إنتاج للبيئة الوزنية لأي بيت بمعزل عن معناه كلية".
إن هذا الرأي وإن كان يشير إلى مدى القيمة التي أعطيت للموسيقا مبالغ فيه لأن صاحبي كتاب نظرية الأدب يريان أن الحافز الإيقاعي يؤثر في اختيار الكلمات وتركيبها ومن ثم في المعنى العام للشعر"(12).
ومن الملاحظ أن العرب أجمعوا على قداسة الوزن والقافية واعتبروهما حدين من حدود الشعر لا يمكن تجاوزهما وإن صار إلى تجاوزهما أو تجاوز أحدهما بطل الكلام أن يكون شعراً إذ أصبح قولاً ذا معنى فقط. وفضلاً عن التأكيدات العربية على أهمية الموسيقا والوزن فقد شاهدنا أهمية الموسيقا في الأدبيات الغربية وبخاصة في كتاب نظرية الأدب.
ولكن إذا تبينا حدود الشعر فيما تقدم فما هي طبيعة الشعر ومقوماته؟ يعد القاضي المعتزلي علي بن عبد العزيز الجرجاني[1] أول من قدم نظرية متكاملة في حدود الشعر وطبيعته ومقوماته، فقد استطاع هذا الناقد أن يؤطر آراء النقاد الذين أتوا قبله وعاصروه وأن يهذبها ويطبعها بطابعه ويصبها في نظرية متكاملة من خلال كتابه الوساطة وبالرغم من أن القاضي الجرجاني هو من نقاد القرن الرابع الهجري فإن نظريته المتكاملة ظلت متألقة براقة تحظى بإعجاب من أتوا بعده إلى ما بعد القرن الثامن الهجري بل إلى عصرنا الحاضر.
ما هي نظرية الجرجاني: (13)
تقوم نظرية الجرجاني على مبدأين مهمين وهما الموهبة المصقولة وعدالة الناقد غير أن موضوعات حدود الشعر وطبيعته ومقوماته تنضوي تحت المبدأ الأول وهو الموهبة المصقولة فما هي الموهبة المصقولة؟
تعني الموهبة المصقولة أن تتوفر لدى الأديب موهبة فطرية فالناس في طبيعتهم متفاضلون ولكن هذه الموهبة تحتاج إلى صقل عن طريق الرواية والتمرس بالأساليب الفصيحة والدربة وما يقضي به ذلك من اختيار للألفاظ الرشيقة والمعاني السليمة وامتلاك مقومات الشعر (لغة-نحو- وزن) وتبدأ أول ما تبدأ بالطبع والشاعر المطبوع.
أولاً: الطبع والشاعر المطبوع:
يعرف الجرجاني الشعر "بأنه علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل واحد من أسبابه فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو الحسن المبرز وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان". وقبل أن نبسط القول في هذا التعريف نرى من المناسب أن نعرض إلى تعريف الحاتمي في هذا المجال حتى نبين مدى رسوخ قدم الجرجاني وعلو شأنه ونفاذه في طبائع الأمور. فقد أبان الحاتمي في الرسالة الموضحة أن حدود الشعر أربعة وهي "اللفظ والمعنى والوزن والتقنية ويجب أن تكون ألفاظه عذبة ومعانيه لطيفة واستعاراته واقعة وتشبيهاته سليمة وأن يكون سهل العروض رشيق الوزن متميز القافية رائع الابتداء بديع الانتهاء" ومن التعريفين أعلاه يتضح أن الحاتمي أطلق حكماً عاماً في الشعر في حين أن الجرجاني عرف الشعر من خلال الشاعر فالشعر علم ولكنه لا يتأتى لأي كان من البشر. وبقوله هذا أراد ما تواضع عليه الناس في ذلك العصر من حدود له ولكنه خصص فيما بعد إذ بين أن عماد هذا العلم هو الموهبة والذكاء والدربة وبقدر نصيب الإنسان من أركان هذا العلم بقدر ما يكون علو شأنه ونباهة ذكره وإبداعه فيه.
ومن الملاحظ أن الجرجاني يستخدم الطبع بمعنى الموهبة والطبع يلهم الشاعر سلامة اللفظ وسلامة الأسلوب وهو الذي يرسم حدود ما بين الشعر الجيد والرديء وما بين الشعر المطبوع والشعر المصنوع المتكلف والطبع عند الجرجاني هو الذي صقله الأدب وشحدته الرواية وجلسته الفطنة وتحت له ملكته الفصل بين الرديء والجيد. يقول الجرجاني "وملاك الأمر في هذا الباب ترك التكلف ورفض التعمل والاسترسال للطبع وتجنب الحمل عليه والعنف به –ولست أعني بهذا كل طبع بل المهذب الذي صقله الأدب وشحذته الرواية وجلته الفطنة والهم الفصل بين الرديء والجيد وتصور أمثلة الحسن والقبيح".
ويبين الجرجاني أن الشعر المطبوع يؤثر في المتلقي فور سماعه بعكس المتكلف والمصنوع الذي تمجه النفس ويعافه القلب رغم أحكامه وصنعته... فيقول "وتأمل كيف تجد نفسك عند إنشاده وتفقد ما يتداخلك من الارتياح ويستخفك من الطرب إذا سمعته وتذكر صبوة إذا كانت لك تراها ممثلة لضميرك ومصورة تلقاء ناظريك".
كذلك وينفي الجرجاني المعنى المبتذل واللفظ المستعمل في الشعر المطبوع لأن الطبع يحمل اللفظ الرشيق ويستبعد الصنعة مثلما يستبعد المعاني الفلسفية (التدقيق) والمعاني البعيدة (الإغراب) ويجعل تأثير الشعر يظهر في سورة الطرب وتذكر الصبوة واستحضار الصورة ويقول الجرجاني (فمن عيوب المعاني التدقيق وهو الخروج عن رسم الشعر إلى طريق الفلسفة).
ثانياً-الموهبة المصقولة:
لا تتأتى الملكة الشعرية لشاعر من الشعراء ولا تنمو الموهبة ولا تصقل إلا بالدربة والرواية والتمرس بالأساليب الفصيحة ومعرفة القواعد والضوابط للمقومات الشعرية ومدى الترخص وحدود الالتزام وتتجلى الموهبة المصقولة في المناحي التالية:
1-سلامة اللغة: يجب أن تكون لغة الشاعر سليمة ولكنه إذا لحن عد لحنه عيباً وليس مطعناً في شاعريته.
2-صحة المعاني: والأصل في الشاعر أن تكون معانيه صحيحة وإذا أخطأ في بعض معانيه عد خطؤه عيباً حيث ورد دون أن يكون ذلك سبباً لإسقاطه من عداد الشعراء.
3-تجنب التفاوت: والتفاوت هو اختلاف مستوى الإنتاج الشعري عند الشاعر الواحد بين قصيدة وأخرى وبين أبيات القصيدة الواحدة وكذلك فإن هذه الصفة تعيب شعر الشاعر دون أن يكون ذلك سبباً لإسقاطه من عداد الشعراء.
4-صحة الوزن العرضي: إن صحة الوزن العروضي ضرورية ولكن الجرجاني لا يناقشه طويلاً لأنه عامل معروف والعامي يستطيع أن يميز الوزن بسهولة.
5-قوة الأسلوب: لما كانت قوة الشعر تظهر من خلال أسلوبه فإن الجرجاني يتناول الأسلوب من ناحيتين.
آ-يتناوله من زاوية داخلية فردية تتعلق بالعوامل الفطرية والنفسية التي تؤدي إلى قوة الأسلوب ورقته (دماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة، وسلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع).
ب-زاوية تاريخية بيئية تتحدث عن عوامل نشوء الأسلوب وعوامل التطور والخروج عن هذا التطور (لين الحضارة وسهولة الطباع والأخلاق).
6-عدم التكلف: التكلف عند الجرجاني عيب فادح لأنه يضرب النسيج الشعري (ألفاظاً واستعارات) وبالمعاني (صحة المعنى ومناسبته ووضوحه) والتكلف عنده نوعان فردي يكون عندما يحمل المرء على طبعه ما ليس فيه وتاريخي عندما تخاطب عصراً وبيئة بأسلوب وألفاظ لا يخصان العصر ولا يتناسبان مع البيئة ويعد الجرجاني شعر أبي تمام نموذجاً لخيانة عصره وتنعكس عيوب التكلف على النسيج الشعري وعلى المضمون.
آ-عيوب النسيج الشعري:
1-الإغراب في انتقاء الألفاظ ونبوها عن مواضعها في السياق.
2-الالحاف في طلب البديع وغيره من علوم البيان وما ورد عنه عفو الخاطر فهو جميل ومقبول.
ب-عيوب المضمون:
1-عدم مناسبة الكلام لمقتضى الحال.
2-التعمق في المعاني يبعد القارئ عن أغراض الشعر ويجعل الجرجاني التعقيد في الشعر على قسمين –الأول بسبب خفاء معاني الشعر حيث تموت بعض الألفاظ فيغيب معناها على الأجيال اللاحقة والثاني يؤدي سوء النظم فيه إلى خفاء المعنى واتساعه لتأويلات عديدة كما ينتج عن التكلف تفاوت في النسيج الشعري وينغص على المتلقي نشوته عند سماع الشعر.
7-السرقة وأنواعها: يسهب الجرجاني في موضوع السرقات ويبين أنواعها ويظهر ما هو مباح وما هو محظور منها.
ثالثاً-عمود الشعر:
لا شك أن الحديث عن الموهبة وطرق صقلها لم تمنع الجرجاني من البحث في الشعر المثالي فالشعر حسب ما يرى يمثل كياناً قائماً بذاته و هو في معزل عن البديع و الفكر ويرى قوامه يتحدد بعمود الشعر. وهو عند الجرجاني يتحدد عناصر تكوينية وعناصر جمالية وعناصر تعود إلى قوة القريحة.
آ-العناصر التكوينية:
1-شرف المعنى: أي سمو المعنى ومناسبته لمقتضى الحال.
2-صحة المعنى أي اشتماله على الصحة المنطقية وتمشيه مع مبدأ الجودة المثالية أي تحويل الموصوف إلى مثل أعلى في جنسه.
3-جزالة اللفظ: وهي صفة تغلب على الأسلوب الذي لا هو بالضعيف الركيك ولا الغريب المعقد وهو ما أسماه الجرجاني (بالنمط الأوسط) وهو ما ارتفع عن الساقط السوقي وانحط عن الوحشية.
4-استقامة اللفظ: وتعني دقة اللفظ في أداء المعنى وإيحاءه وسهولته وألفته على الأسماع فلا يكون غريباً أو بعيداً عنه.
ب-العناصر الجمالية:
1-الإصابة في الوصف: والوصف في عرف النقاد محاكاة وتمثيل لفظي للشيء الموصوف وهو إما وصف مادي أو وصف للمشاعر والأحاسيس.
ج-قوة الطبع وتدفق القريحة: وهي القدرة على الارتجال لما يتداعى إلى هذا الذهن من العبارة المأثورة وسرعة رد الفعل تجاه المؤثرات الخارجية.
د-بنية القصيدة: وقد رأيت أن لا أبحث في هذا الموضوع تحت بند مستقل لأنه يشكل في رأيي تتمة وتكملة لعمود الشعر ويركز الجرجاني في هذا الصدد على مفاصل القصيدة (الاستهلاك-الابتداء-التخلص- الختام) فالشاعر الحاذق يجتهد في تحسين الاستهلاك والتخلص وتجميل الخاتمة وهي المواقف التي تستعطف أسماع الناس وتستميل قلوبهم إلى الإصغاء وينضوي تحت هذا البند ما سماه الجرجاني مفهوم وحدة القصيدة كما فعل عند تحليل قصيدة جرير إذ أكد على الوحدة الفنية أو الشخصية الفنية حين نفى الأشعار المنسوبة إلى الأقيشر لأنها لا تحمل ملامحه الأسلوبية لذلك قال بتقويم مجمل إنتاج الشاعر للحكم عليه. وقد بلغ من قيمة نظريته وأهميتها أن قال فيها الدكتور إحسان عباس "أن نظرية عمود الشعر رحبة الأكتاف واسعة الجنبات وأنه لا يخرج من نطاقها شاعر عربي أبداً وإنما تخرج قصيدة لشاعر أو أبيات في كل قصيدة وقد أساء الناس فهم هذه النظرية وحملوها من السيئات الكثير ولكنها أساس كلاسيكي رصين فالثورة عليها لا تكون إلا على أساس رفض الشعر العربي كله"(14).
القسم الثاني- وظيفة الشعر عند العرب:
هل للشعر وظيفة عند العرب...؟ وإذا كانت له وظيفة فما هي وظيفته. لا تقع عند العرب على تعريف صريح لوظيفة الشعر ولا يوجد لديهم مصطلح محدد لهذا الغرض بيد أن هناك ما يشير إلى هذه الوظيفة نستطيع التماسه من خلال النصوص المعروضة والآراء المبثوثة في مؤلفاتهم الأدبية المختلفة. ولعل أوضح نص يواجهنا في هذا المجال هو نص ابن سينا الذي يحدد الغرض من قول الشعر بجانبين-أحدهما التأثير في النفس للقيام بفعل معين أو إظهار انفعال ما وثانيهما هو الاستمتاع بالجمال والإعجاب به حيث يقول "وكانت العرب تقول الشعر لوجهين أحدهما ليؤثر في النفس أمراً من الأمور تعد به نحو فعل أو انفعال والثاني للعجب فقط فكانت تشبه كل شيء لتعجب بحسن التشبيه"(15). وقد حدد القيرواني صاحب كتاب العمدة وظيفة الشعر ببعث، مكارم الأخلاق في النفوس وتأصيل ذلك في ملكة ا لأبناء حتى تصبح طبعاً فيهم وتصرفاً ذاتياً أو سلوكاً عفوياً فيما يأتون وفيما يدعون فقد قال تحت عنوان النثر يسبق الشعر "وكان الكلام كله منثوراً فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها وطيب أعراقها وذكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة وفرسانها الأنجاد وسمحائها الأجواد لتهز أنفسها إلى الكرم وتدل أبناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض جعلوها موازين فلما تم لهم وزنه سموه شعراً لأنهم شعروا به أي قطنوا"(16).
ومما يؤكد ما ذهب إليه ابن رشيق صاحب كتاب العمدة ما رواه ابن عائشة عن الرسول e "الشعر كلام من كلام العرب جزل تتعلم به في بواديها وتسل به الضغائن من بنيتها"(17).
وأنشد ابن عائشة قول أعشى بن قيس لـ بن ثعلبة:
والشعر يستنزل الكريم كما
يَنزل رعدُ السحابة السبلا
وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى أبي موسى الأشعري قائلاً "مر من قبلك" بعلم الشعر فإنه يدل على معاني الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب"(18) وقال معاوية بن أبي سفيان يجب على الرجل تأديب ولده والشعر أعلى مراتب الأدب. وقال اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر دأبكم فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفين وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض وأنا أريد الهرب لشدة البلوى وما حملني على الإقامة إلا الأبيات عمر بن الأطنابة(19).
أبت لي همتي وأبى بلائي
وأخذ الحمد بالثمن الربيح
وأقحامي على المكروه نفسي
وضر بي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تسترحي
لأدفع عن مأثر صالحات
وأحمي بعد عن عرض صحيح
وقد جاء في أحكام صنعه الكلام للمعري "لا تجهلوا فضيلة الشعر فإنه يذكر الناس ويحل عزمه الفاتك ويعطف مودة الكاشح ويشجع الجبان"(20).
ومن الملاحظ من خلال ما تقدم أن للشعر وظيفة مهمة وضرورية أما كونها مهمة فلأنها تتعلق بالقيم السلوكية وأما كونها ضرورية فلأنها تؤدب الأولاد بأعلى مراتب الأخلاق.
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه
وربما تعود هذه الوظيفة إلى طبيعة المجتمع العربي وخصائصه إلى قيمه وأدبه ومثله التي اقتضتها طبيعة حياة العربي وتكوينه النفسي التي ميزت مجتمعه عن غيره من المجتمعات وعلى الأرجح أن تكون هذه القيم قد تفرعت عن قيم الحق والخير والجمال التي فطر الإنسان عليها والتي سرعان ما تفسدها بعض النوازع الشريرة فيأتي الشعر فيوقظها ويؤججها ليعيدها إلى سيرتها الأولى. ومن هنا جاء تمسك العرب بالشعر وانصرافهم إليه فقد روي عن النبي e "لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين"(21).
وقد أكد حازم القرطاجني فيما بعد على أن الغاية من الأقاويل الشعرية هي أحداث التأثير والانفعال في النفوس الإنسانية بحيث تحمل على عمل شيء أو اعتقاده أو تجنبه وأن أدخلها في الشعر هي ما اشتدت علقته بالإنسان واشتركت في القبول منها أو النفور الخاصة والعامة بحكم الفطرة ويستشهد حازم القرطاجي في ذلك بقول الفارابي "بأن الغرض المقصود بالأقاويل المخيلة أن ينهض السامع نحو فعل الشيء الذي خيل فيه أمر ما من طلب له أو هرب عنه"(22).
ونلاحظ أن وظيفة الشعر التأثيرية ما زالت تستأثر بالأدباء حتى الآن فقد أورد الدكتور محمود الربيعي في كتابه الشعر أن الشعر من وجهة نظر الرومانتيكية لا يقتصر مفهومه على التعبير عن العواطف وإنما يتجاوز ذلك إلى شيء آخر هو توصيل هذه العواطف المعبر عنها إلى نفوس القراء والسامعين على نحو يثير لدى هؤلاء المتلقين عواطف شبيهة بالعواطف التي يوصلها إليهم هذا الشعر. ويدعم الربيعي رأيه برأي شكري في تعبيره عن هذه الفكرة في قوله "وليس الشاعر الذي يملأ آذان قومه بالمعاني الجديدة والآراء الجليلة وإنما الشاعر الذي يملأ قلوبهم بالرغائب والذي يقوي عواطفهم لأن العواطف هي القوة المحركة في الحياة والأديب العظيم هو من كانت كلماته كهرباء النفوس هو الذي يحرك النفس كما يحرك العواد عوده فيوقع عليها من الألحان ما تهتاج له قوى النفس في أعماقها هو الذي يجعل لكل عاطفة من عواطف النفس روحاً وحياة شخصية لأن النفوس يعلوها صدأ مثل صدأ المادة ولا يجلو عنها هذا الصدأ إلا ما يحرك أعماقها والنفس كالماء الراكد الذي تعلوه المواد العطنة وكما أن هذا الماء الراكد لا يجدده غير تيار جديد كذلك الروح ينبغي أن تكون عرضة للتيارات الروحية وليست حياة الأديب إلا تياراً من تلك التيارات التي تحرك النفس"(23).
وتتوضح وظيفة الشعر من خلال الأغراض التي طرقها العرب كالمديح والهجاء والرثاء والغزل وما يرد عليها. وقد بين قدامة بن جعفر أن أغراض الشعر إما أن يكون موضوعها الإنسان أو الموصوف وإما أن يكون موضوعها الشيء الموصوف وهو يجمع بين هذين بالرابطة الصورية (التشبيه) ويقول أيضاً "إننا إذا استثنينا الوصف وهو موضوع مشترك بين الناس والأشياء فإن الأربعة الأول أي المدح والهجاء والرثاء والغزل ليست إلا منحاً للصفات أو سلباً لها. فالمدح يتطلب صفات إيجابية تسلب في الهجاء وتحول إلى الرثاء أو تحور عن قاعدتها الأصلية في الحديث عن النساء" ويجعل للنسيب صلة بالأخلاق فيقول في تعريفه النسيب "إن النسيب ذكر الشاعر خلق النساء أو أخلاقهن وتصرف أحوال الهوى معهن"(24).
وعلى هذا فكما يتبين من نص قدامة السابق أن المدح هو منح للصفات وأن بقية الفنون الشعرية تنطلق في الأصل من هذه الصفات فإما أن تكون سلباً لها كما هي في الهجاء أو تحول إلى مناقب كما هي في الرثاء أو تحور عن قاعدتها الأصلية إلى الغزل. والمدح كما يبدو من كلام قدامة تتفرع عنه بقية الأغراض الشعرية الأخرى. ومن الملاحظ أن هذه الصفات تركز على القيم الأخلاقية الرفيعة (العقل والعفة والعدل والشجاعة) وهي الصفات الكريمة والخلال الحميدة التي اعتمد عليها العربي في ترسيخ مكارم الأخلاق في نفوس الناشئة ثم إثارتها وبعثها والتذكير بها لتصبح قدوة في المجتمع ومثالاً يحتذى للآخرين. وقد ذكر قدامة هذه الفضائل وما يتفرع عنها حيث قال:
"لما كانت فضائل الناس من حيث هم ناس لابن طريق ما هم مشتركون فيه مع سائر الحيوانات على ما عليه أهل الألباب من الاتفاق في ذلك إنما هي العقل والعفة والعدل والشجاعة كان القاصد للمدح بهذه الأربعة مصيباً وبما سواها مخطئاً ويتفرع عن هذه الفضائل الأربعة الكثير من القيم كما ينشأ من تركيبها بعضها مع بعض أقسام إضافية مثل العقل مع الشجاعة كالصبر على الملمات ونوازل الخطوب والوفاء وكذلك العقل مع السخاء وغيرها مما تريد أبعاد هذه الفضائل ويولد بعضها من بعض".
وقد ذهب ابن طباطبا في عيار الشعر هذا المذهب ولكن مع بيان للحالات التي يكون فيها المتعلق بالخصال الحميدة أفضل من غيره مع أنهما يقومان بالفعل نفسه فالجود من المعسر أهم والبخل من الميسور أشنع وعلى ما يبدو فقد انفرد ابن طباطبا في إظهار هذه الناحية فيقول "وللعرب مثل عليا هي متكأهم في المدح والهجاء" منها الخلق الجمال والبسطة ومنها في الخلق كالسخاء والشجاعة والحلم والحزم والعفاف والبر والعقل والأمانة فهذا ما يمدح به كما أن أضدادها تصبح موضوعاً للهجاء على أن هناك حالات تؤكد هذه المثل فالجود في حال العسر أهم من مجرد الجود والبخل من الواجد القانع أشنع.. وهكذا تتخذ هذه المثل نفسها مراتب متفاوتة تتشعب منها فنون القول وصنوف التشبيهات.
ولعل وقفة قصيرة على بعض الأغراض الشعرية تظهر وظيفة الشعر من خلال بعض الشواهد يقول زهير مادحاً: (26)
أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله
ولكنه قد يهلك المال نائله
تراه إذا ما جئته متهلاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
بماذا وصف زهير ممدوحه لقد وصفه بالعفة لقلة إمعانه في اللذات وإنه لا ينفذ فيها ماله ثم وصفه بالسخاء لإهلاكه ماله بالنوال وانحرافه بذلك عن اللذات و ذلك ما يقتضيه العقل في حين أراد في البيت الثاني أن فرحه بما يعطي أكثر من فرحه بما يأخذ وزاد في وصف السخاء منه بأن جعله يهش ولا يلحقه مضض ولا تكره لفعله. فإذا كان هذا هو شأن المدح فما هو شأن الرثاء وما هي الفضائل والقيم التي يعالجها إن الإجابة على ذلك سهلة وميسرة إذ أن ليس بين الرثاء والمدح فرق إلا أنه يخلط بالرثاء شيء يدل على أن المقصود به ميت. ونورد فيما يلي قطعة شعرية جمعت بين الرثاء والعتب قامت بوظيفتها التأثيرية خير قيام فقد أنشدت قتيلة بنت النضر بن الحارث ترثي أخاها هذه الأبيات لرسول الله e(27).
أيا راكباً أن الأثيل مظنة
من صح خامسة وأنت موفق
أبلغ به ميتاً بأن قصيدة
ما أن تزال به الركائب تحقق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
لله أرحام هناك تشفق
ما كان ضرك لو مننت وربما
من الفتى وهو المغيظ المحنق
والنضر أقرب من قتلت وسيلة
وأحقهم إن كان عتقاً يعتق
فقال النبي e لو كنت سمعت شعرها هذا ما قتلته فانظر كيف كانت قد أدت هذه القصيدة وظيفتها لو أنها وصلت إلى الرسول e قبل أن يقتل النضر وهو من ألد أعدائه.
والافتخار هو المدح إلا أن الشاعر يخص نفسه وقومه وكل ما حسن في المدح حسن في الافتخار وكل ما قبح فيه قبح في الافتخار.
أما العتاب فإنه حياة للمودة وشاهد وفاء إذا كان على اعتدال وله طرق وأساليب كثيرة وللناس فيه ضروب مختلفة ومما استحسنه النقاد في العتاب هو قول أبي عبادة البحتري(28)
يريبني الشيء تأتي به
وأكبر قدرك أن أستريبا
أكذب ظني بأن قد سخطت
وما كنت أعهد ظني كذوبا
ولو كنت أعلم ذنباً لما
تخالجني الشك في أن أتوبا
سأصبر حتى ألاقي رضاك
أما بعيداً وأما قريباً
أراقب رأيك حتى يصح
وانظر عطفك حتى يؤوبا
وكان العقلاء من الشعراء وذوي الحزم يتوعدون بالهجاء ويحذرون من سوء الأحدوثة ولا يمضون القول إلا لضرورة لا يحسن السكوت عليها. ولعل ذلك مذهب سديد يجعلهم يصلون إلى ما يريدون دون تجريح أو تطرف فانظر إلى جران العود كيف وظف الشعر في تحذير زوجته من النشوز عليه بقوله(29).
عمدت لعود فالتحيت جرانه
وللكيس خير في الأمور وأنجح
خذي حذراً يا خلتي فإنني
رأيت جران العود قد كاد يصلح
وعموماً فإن وظيفة الشعر في العتاب تنصب في التأكيد على قيم الوفاء والصبر على الصديق ومحاولة إرضائه بشتى السبل وغيرها أما الإنذار والتوعد والتلويح وإظهار فائدة العودة إلى الصواب والانصراف إلى الحكمة أفضل وأجدى من أي طريق آخر.
أما وظيفة الشعر الغزلية فتأتي للتوكيد على القيم الجمالية الوصفية وقيم الحب والشوق والحنين والوفاء واللوعة وما إلى ذلك ففن الغزل واسع جداً ويحتاج إلى بحث خاص غير أنه يمكن أن نتبين من خلال بعض الأشعار وجهاً أو أكثر من وظائف الشعر. ويعلق قدامة بن جعفر على البيتين التاليين اللذين عدهما من أحسن الغزل(30).
يود بأن يحيى سقيماً لعلها
إذا سمعت عنه بشكوى تراسله
ويهتز للمعروف في طلب العلا
لتحمد يوماً عند ليلى شمائله
فيقول إنهما يدلان على الربط بين الحب والمعروف وأن ليلى امرأة تحب الشمائل الحلوة التي تدفع صاحبها إلى طلب العلا وإلى مستوى أخلاقي رفيع. فالنسيب عنده ذكر الشاعر خلق النساء وأخلاقهن وتصرف أحوال الهوى به معهن.
ومن أوجه الغزل وأقدمها وجه الجمال الممتع فما القصيدة إلا لوحة أخاذة تحمل من القيم الجمالية ما يسحر ويأخذ بالألباب كما يقول المرار العدوي(31).
وهي هيفاء هضيم كشحها
فخمة حيث يشد المؤتزر
صلة الخد طويل جيدها
ضخمة الثدي ولما ينكسر
وانظر إلى أبي نواس يقدم هذه اللوحة الجميلة(32).
كأن ثيابه أطلعن
من أزراره قمرا
يزيدك وجهه حسناً
إذا ما زدته نظرا
بعين خالط التفتير
من أجفانها الحور
وخد سابري لو
تصوب ماؤه قطرا
لا أريد أن أستفيض في وجوه الغزل فيكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق غير أنني أستطيع أن أقول أن الشعر الغزلي استطاع أن ينقل القيم الأساسية مع تصعيد عليها في بعض الأحيان بأثر من الحس المرهف والبيئة والثقافة. وبعد أن تبينا أن للشعر وظيفة مهمة وضرورية نستطيع أن نعرف وظيفته من خلال ذلك وهي "إن وظيفة الشعر العربي هي إيقاف الفضائل أو القيم الأساسية التي آمن بها الإنسان العربي وإنمازنها مجتمعة واقتضتها ظروفه الحياتية وفطرته السليمة عن طريق التعبير بثوب جمالي لائق وجذاب".
وفي الختام وبالرغم من أن لكل أدب خصوصيته وأسبابه ودواعيه فإن مصطلح نظرية الأدب لم يوجد عند العرب كما وجد عند الغربيين غير أن المفهومين اللذين تقوم عليهما النظرية وهما طبيعة الأدب ووظيفته أثارا الاهتمام ودفعا إلى بحثهما وتلمس حدودهما وأبعادهما لدى الأدب العربي.
ونظراً للمكانة التي احتلها الشعر عند العرب والمساحة التي أخذها من حياتهم بالمقارنة مع الفنون الأدبية الأخرى لأنه ديوانهم كما كانوا يؤكدون فقد جرى تحديد البحث في هذين المفهومين على الشعر فقط.
ولدى البحث والتنقيب فقد تبين أن للشعر العربي طبيعة وحدوداً ومقومات خاصة به وإن لبعض هذه الحدود قداسة بإجماع الدارسين والنقاد العرب القدامى. كما ظهر من خلال النقد العربي والمقولات المختلفة التي قالها العرب في العشر ومن النصوص المختلفة التي كانت تؤدي وظائف معينة أن للشعر العربي وظيفة واضحة عرفها العرب ووعوا أبعادها واعتمدوا عليها بحياتهم الواقعية.
وفي الختام أرجو أن يكون قد كشف هذا البحث عن نظرية الأدب بل نظرية الشعر عند العرب وبلورها في إطار واضح وبين أن المبدأين هما طبيعة الشعر ووظيفته قد تعرض لهما العرب بشكل أو بآخر.
المراجع حسب ورودها في النص
(1)د.خطيب حسام – محاضرات في تطور الأدب الأوروبي- مطبعة طربين دمشق 1975 ص350.
(2)أوستن وارين ورينيه ويليك –نظرية الأدب ترجمة محي الدين صبحي مراجعة الدكتور حسام الخطيب –مطبعة خالد الطرابيشي- دمشق 1973 ص19.
(3)قدامة ابن جعفر –نقد الشعر- طبعة ليدن- 1956.
(4)مجلة الشعر –العدد 12-1959- ص91.
(5)د. عباس إحسان –تاريخ النقد الأدبي عند العرب- دار الأمانة والرسالة بيروت- 1971- ص412.
(6)ابن رشيق القيرواني –العمدة- المكتبة التجارية الكبرى- القاهرة- 1955-ص-134-150.
(7)المرجع رقم (6).
(8)الجاحظ –الحيوان- مكتبة النوري وشركة الكتاب اللبناني- بيروت 1968- ص 54.
(9)المرجع رقم (5) ص 219.
(10)بنت الشاطئ –الغفران- دار المعارف- القاهرة- 1954 ص200.
(11)مرجع (5) 266.
(12)مرجع (2) ص218.
(13)اتحاد الكتاب العرب بدمشق –مجلة التراث- د. علواني مصطفى "الباحث نفسه".
نظرية الموهبة المصقولة وعدالة الناقد عند القاضي الجرجاني العدد 37-38- دمشق 1990- ص226-232.
(14)مرجع (5) ص405.
(15) مرجع (5) ص414.
(16) مرجع (6) ص20.
(17)العمدة ص28 ولكن الحديث ليس موجوداً في الصحاح العشرة ولا مستدرك الحاكم ولا مجمع الزوائد.
(18)مرجع (6) 28.
(19)مرجع (6) 29.
(20)الكلاعي ابن عبد الغفور –أحكام صنعة الكلام- تحقيق د. رضوان الداية دار الثقافة بيروت 1966 ص38.
(21)العمدة ص 30 والحديث الشريف ليس موجوداً في الصحاح العشرة ولا مستدرك الحاكم ولا مجمع الزوائد.
(22)مرجع (5) ص556.
(23)د. الربيعي محمود الشعر دار المعارف –طبعة رابعة- القاهرة 1977 ص 111.
(24)مرجع (5) ص212.
(25)ابن طباطبا –عيار الشعر- ص12.
(26)العمدة جزء 2 ص130.
(27)د. ضيف شوقي –الشعر والغناء في المدينة والحجاز- دار الثقافة- بيروت 1967 ص291.
(28)ديوان البحتري –طبعة دار المعارف- جـ1- القاهرة 1963 ص 51-53.
(29)العمدة جـ1 ص 48.
(30)المرجع (5) 212.
(31)العمدة ص 118.
(32)العمدة جـ 1212.
--------------------------------------------------------
[1]يعد علي بن عبد العزيز الجرجاني من أهم نقاد العرب وجد في القرن السابع الهجري وانماز بحسن مرهف وذوق رفيع ودراية كبيرة قلما تأتت لغيره فضلاً عما كان يتمتع به من دماثة في خلقه وعدالة في محاكمته. ولي القضاء وكان يرى رأي المعتزلة. انظر بحثنا عن الجرجاني من مجلة التراث السورية الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب دمشق العدد رقم 37، 38 دمشق 1990).
أما بعد:
لم يعن العرب بالبحث في نظرية الأدب حتى في أوج ازدهار حركتهم النقدية، وكان جل همهم ينحصر في تعريف الشعر ووضع مبادئ وقواعد النقد والمقولات أو التفسيرات المختلفة التي تتعلق بالدافع إلى قول الشعر.
ونظرية الأدب مصطلح ظهر في الغرب وعولج معالجة وافية في أدبياته. وقد أكد الدكتور حسام الخطيب. أن الاهتمام بها قديم عندهم وضارب في جذور التاريخ(1) كما بين أن البحث فيها ظل يرتكز حتى الآن على سؤالين أساسيين هما السؤال عن طبيعة الأدب والسؤال عن وظيفته. وبالرغم من الخلاف الدائر بين التيارات الأدبية المعاصرة في الأدب الأوربي فقد قاد التركيز على المسألة الأولى وهي طبيعة الأدب إلى النظرية الشكلية في حين أن التركيز على وظيفة الأدب قاد إلى النظرية الأخلاقية.
وقد وضح مؤلفا كتاب نظرية الأدب(2) أن أول مشكلة تعرض في طبيعة الأدب تتعلق بأمرين، هما ما الذي يعد أدباً وما الذي لا يعد أدباً؟ وثانيهما طبيعة الأدب. وقد ناقشنا ذلك مناقشة مسهبة ووضعا حدوداً تفصل بين الأدب وغيره. أما فيما يتصل بوظيفته الأدب فقد عالجا آراء عدة وقاما بتفحص المفهومات المتعلقة بوظيفة الأدب والتي تتحلق حول كلمة "التطهير" منذ أن نص عليها أرسطو في كتابه "فن الشعر" حتى أيامنا هذه.
وبالرغم من أن لكل أدب خصوصيته وأسبابه ودواعيه فإن مفهوماً مثل طبيعة الأدب ووظيفته قد يثير الاهتمام لدى الدارس العربي. لذلك من المجدي أن نتلمس لدى الشعراء والأدباء والنقاد العرب حدود هذين المفهومين عند معالجتهم للقضايا والأبعاد الأدبية والنقدية المتصلة بذلك و أن نقف عليهما من خلال الشعر والمقولات المختلفة. وعلى هذا فسوف يتحدد هدفنا من هذا البحث بالوقوف على هذين المفهومين من خلال خصوصية الإنسان العربي الشعرية حتى نتمكن من تحديد نظرية الأدب عند العرب. وهذا يقتضي أن نبحث فيما يلي:
1-طبيعة الشعر عند العرب.
2-وظيفة الشعر عند العرب.
ونظراً للمكانة التي احتلها الشعر عند العرب والمساحة التي أخذها في حياتهم من بين سائر الأجناس الأدبية فإنه قد جرى تحديد البحث في هذين المفهومين على الشعر فقد كان ديوانهم منذ القديم وسكب روحهم ومتنفسهم وملاذهم في كل مجال. ولعل منهجية البحث تدفعنا إلى تحديد الفترة التي نبحث فيها عن هذين المفهومين وقد يكون من المفيد أن تحدد بالفترة التي توهج فيها النقد وازدهرت حركته بغض النظر عن التحديد الجغرافي فالزمن يبدأ على التقريب من القرن الثاني للهجرة حتى الثامن، والمساحة تمتد لتشمل المغرب العربي والأندلس.
وهذا لا يمنعنا من أن نعود إلى ما قبل القرن الثاني أو نستعين بآراء النقاد المحدثين في تأييد رأي أو نفي آخر.
القسم الأول: طبيعة الشعر عند العرب:
نهتم في هذا المجال بما يتعلق بطبيعة الشعر وحدوده ومقوماته على تقدير أنه يندرج تحت مفهوم الغربيين عند تفريقهم بين الأدب وغيره ومناقشتهم لطبيعته ومقوماته.
يعد تعريف قدامة بن جعفر للشعر من أقدم التعريفات التي خرج بها النقاد العرب إلى الوجود وقد عرف قدامة الشعر بأنه "قول موزون مقفى يدل على معنى"(3) فكلمة قول بمنزلة الجنس وموزون فصل له عما ليس بموزون ومقفى فصل عما هو موزون ولا قوافي له ودال على معنى فصل له عما يكون موزوناً ولا يدل على معنى. وعلى هذا فقد استطاع قدامة بن جعفر أن يرسم حدود الشعر ويبين أن ما وقع ضمن هذه الحدود يعد شعراً وما خرج عن هذه الحدود لا يعد شعراً وقد جرى النقاد والدارسون على هذا التعريف ولكن بين زائد عليه وموضح له ومؤكد على حدوده فقد بين الفارابي أن العرب أكثر الأمم اعتناء بنهايات أبياتهم إذ يقول "إن العرب من العناية بنهايات الأبيات التي في الشعر أكثر بكثير من الأمم التي عرفنا أشعارهم"(4) كما جاء ابن سينا في تعريفه للشعر مؤكداً على الوزن والقافية حيث يقول "الشعر كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية وعند العرب مقفاه"(5) وفي العمدة لابن رشيق القيرواني مباحث خاصة بالقافية والوزن فقال "الوزن أعظم أركان حد الشعر وأولاها به خصوصية"(6) وفي مكان آخر من العمدة يقول "والقافية شريكة الوزن في الاختصاص في الشعر ولا يسمى شعراً حتى يكون له وزن وقافية"(7) وكان الجاحظ يقول أو يرى أن الوزن هو السر المعجز في الأدب العربي(8) وقد ذهب الفارابي إلى أن الشعر يبطل أن يكون شعراً إذا خلا من الوزن. فقال "إن الشعر إذا خلا من الوزن بطل أن يكون شعراً والأصح أن يسمى عند ذلك قولاً شعرياً"(9) وقد عرف المعري الشعر "بأنه كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إن زاد أو نقص أبانه الحس"(10) ولم يكتف العرب بالتشديد على الالتزام بالقافية بل دعوا إلى العناية بها وتهذيبها فإنها مركز البيت وأشرف ما فيه فقد قال الحاتمي "وسبيل الشاعر أن يعنى بتهذيب القافية فإنها مركز البيت"(11) كما قال أحد النقاد العرب القدماء "استجيدوا القوافي فإنها حوافر الشعر أي أنها أشرف ما في البيت لأن حوافر الفرس هي أوثق ما فيه وبها منهوضه وعليها اعتماده".
وفي الأدب الغربي بغض النظر عن شخصية كل أدب فقد تم التأكيد على عدم تجاهل معنى النظم في نظرية الأوزان. ويورد صاحبا كتاب نظرية الأدب رأي واحد من أفضل علماء الوزن الموسيقي وهو "جورج ستيورات" مدللين على أهمية الموسيقا في هذا المجال إذ يقول "أن النظم يمكن أن يوجد دون معنى ما دام الوزن مستقلاً استقلالاً جوهرياً عن المعنى فإن لنا الحق في أن نحاول إعادة إنتاج للبيئة الوزنية لأي بيت بمعزل عن معناه كلية".
إن هذا الرأي وإن كان يشير إلى مدى القيمة التي أعطيت للموسيقا مبالغ فيه لأن صاحبي كتاب نظرية الأدب يريان أن الحافز الإيقاعي يؤثر في اختيار الكلمات وتركيبها ومن ثم في المعنى العام للشعر"(12).
ومن الملاحظ أن العرب أجمعوا على قداسة الوزن والقافية واعتبروهما حدين من حدود الشعر لا يمكن تجاوزهما وإن صار إلى تجاوزهما أو تجاوز أحدهما بطل الكلام أن يكون شعراً إذ أصبح قولاً ذا معنى فقط. وفضلاً عن التأكيدات العربية على أهمية الموسيقا والوزن فقد شاهدنا أهمية الموسيقا في الأدبيات الغربية وبخاصة في كتاب نظرية الأدب.
ولكن إذا تبينا حدود الشعر فيما تقدم فما هي طبيعة الشعر ومقوماته؟ يعد القاضي المعتزلي علي بن عبد العزيز الجرجاني[1] أول من قدم نظرية متكاملة في حدود الشعر وطبيعته ومقوماته، فقد استطاع هذا الناقد أن يؤطر آراء النقاد الذين أتوا قبله وعاصروه وأن يهذبها ويطبعها بطابعه ويصبها في نظرية متكاملة من خلال كتابه الوساطة وبالرغم من أن القاضي الجرجاني هو من نقاد القرن الرابع الهجري فإن نظريته المتكاملة ظلت متألقة براقة تحظى بإعجاب من أتوا بعده إلى ما بعد القرن الثامن الهجري بل إلى عصرنا الحاضر.
ما هي نظرية الجرجاني: (13)
تقوم نظرية الجرجاني على مبدأين مهمين وهما الموهبة المصقولة وعدالة الناقد غير أن موضوعات حدود الشعر وطبيعته ومقوماته تنضوي تحت المبدأ الأول وهو الموهبة المصقولة فما هي الموهبة المصقولة؟
تعني الموهبة المصقولة أن تتوفر لدى الأديب موهبة فطرية فالناس في طبيعتهم متفاضلون ولكن هذه الموهبة تحتاج إلى صقل عن طريق الرواية والتمرس بالأساليب الفصيحة والدربة وما يقضي به ذلك من اختيار للألفاظ الرشيقة والمعاني السليمة وامتلاك مقومات الشعر (لغة-نحو- وزن) وتبدأ أول ما تبدأ بالطبع والشاعر المطبوع.
أولاً: الطبع والشاعر المطبوع:
يعرف الجرجاني الشعر "بأنه علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل واحد من أسبابه فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو الحسن المبرز وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان". وقبل أن نبسط القول في هذا التعريف نرى من المناسب أن نعرض إلى تعريف الحاتمي في هذا المجال حتى نبين مدى رسوخ قدم الجرجاني وعلو شأنه ونفاذه في طبائع الأمور. فقد أبان الحاتمي في الرسالة الموضحة أن حدود الشعر أربعة وهي "اللفظ والمعنى والوزن والتقنية ويجب أن تكون ألفاظه عذبة ومعانيه لطيفة واستعاراته واقعة وتشبيهاته سليمة وأن يكون سهل العروض رشيق الوزن متميز القافية رائع الابتداء بديع الانتهاء" ومن التعريفين أعلاه يتضح أن الحاتمي أطلق حكماً عاماً في الشعر في حين أن الجرجاني عرف الشعر من خلال الشاعر فالشعر علم ولكنه لا يتأتى لأي كان من البشر. وبقوله هذا أراد ما تواضع عليه الناس في ذلك العصر من حدود له ولكنه خصص فيما بعد إذ بين أن عماد هذا العلم هو الموهبة والذكاء والدربة وبقدر نصيب الإنسان من أركان هذا العلم بقدر ما يكون علو شأنه ونباهة ذكره وإبداعه فيه.
ومن الملاحظ أن الجرجاني يستخدم الطبع بمعنى الموهبة والطبع يلهم الشاعر سلامة اللفظ وسلامة الأسلوب وهو الذي يرسم حدود ما بين الشعر الجيد والرديء وما بين الشعر المطبوع والشعر المصنوع المتكلف والطبع عند الجرجاني هو الذي صقله الأدب وشحدته الرواية وجلسته الفطنة وتحت له ملكته الفصل بين الرديء والجيد. يقول الجرجاني "وملاك الأمر في هذا الباب ترك التكلف ورفض التعمل والاسترسال للطبع وتجنب الحمل عليه والعنف به –ولست أعني بهذا كل طبع بل المهذب الذي صقله الأدب وشحذته الرواية وجلته الفطنة والهم الفصل بين الرديء والجيد وتصور أمثلة الحسن والقبيح".
ويبين الجرجاني أن الشعر المطبوع يؤثر في المتلقي فور سماعه بعكس المتكلف والمصنوع الذي تمجه النفس ويعافه القلب رغم أحكامه وصنعته... فيقول "وتأمل كيف تجد نفسك عند إنشاده وتفقد ما يتداخلك من الارتياح ويستخفك من الطرب إذا سمعته وتذكر صبوة إذا كانت لك تراها ممثلة لضميرك ومصورة تلقاء ناظريك".
كذلك وينفي الجرجاني المعنى المبتذل واللفظ المستعمل في الشعر المطبوع لأن الطبع يحمل اللفظ الرشيق ويستبعد الصنعة مثلما يستبعد المعاني الفلسفية (التدقيق) والمعاني البعيدة (الإغراب) ويجعل تأثير الشعر يظهر في سورة الطرب وتذكر الصبوة واستحضار الصورة ويقول الجرجاني (فمن عيوب المعاني التدقيق وهو الخروج عن رسم الشعر إلى طريق الفلسفة).
ثانياً-الموهبة المصقولة:
لا تتأتى الملكة الشعرية لشاعر من الشعراء ولا تنمو الموهبة ولا تصقل إلا بالدربة والرواية والتمرس بالأساليب الفصيحة ومعرفة القواعد والضوابط للمقومات الشعرية ومدى الترخص وحدود الالتزام وتتجلى الموهبة المصقولة في المناحي التالية:
1-سلامة اللغة: يجب أن تكون لغة الشاعر سليمة ولكنه إذا لحن عد لحنه عيباً وليس مطعناً في شاعريته.
2-صحة المعاني: والأصل في الشاعر أن تكون معانيه صحيحة وإذا أخطأ في بعض معانيه عد خطؤه عيباً حيث ورد دون أن يكون ذلك سبباً لإسقاطه من عداد الشعراء.
3-تجنب التفاوت: والتفاوت هو اختلاف مستوى الإنتاج الشعري عند الشاعر الواحد بين قصيدة وأخرى وبين أبيات القصيدة الواحدة وكذلك فإن هذه الصفة تعيب شعر الشاعر دون أن يكون ذلك سبباً لإسقاطه من عداد الشعراء.
4-صحة الوزن العرضي: إن صحة الوزن العروضي ضرورية ولكن الجرجاني لا يناقشه طويلاً لأنه عامل معروف والعامي يستطيع أن يميز الوزن بسهولة.
5-قوة الأسلوب: لما كانت قوة الشعر تظهر من خلال أسلوبه فإن الجرجاني يتناول الأسلوب من ناحيتين.
آ-يتناوله من زاوية داخلية فردية تتعلق بالعوامل الفطرية والنفسية التي تؤدي إلى قوة الأسلوب ورقته (دماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة، وسلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع).
ب-زاوية تاريخية بيئية تتحدث عن عوامل نشوء الأسلوب وعوامل التطور والخروج عن هذا التطور (لين الحضارة وسهولة الطباع والأخلاق).
6-عدم التكلف: التكلف عند الجرجاني عيب فادح لأنه يضرب النسيج الشعري (ألفاظاً واستعارات) وبالمعاني (صحة المعنى ومناسبته ووضوحه) والتكلف عنده نوعان فردي يكون عندما يحمل المرء على طبعه ما ليس فيه وتاريخي عندما تخاطب عصراً وبيئة بأسلوب وألفاظ لا يخصان العصر ولا يتناسبان مع البيئة ويعد الجرجاني شعر أبي تمام نموذجاً لخيانة عصره وتنعكس عيوب التكلف على النسيج الشعري وعلى المضمون.
آ-عيوب النسيج الشعري:
1-الإغراب في انتقاء الألفاظ ونبوها عن مواضعها في السياق.
2-الالحاف في طلب البديع وغيره من علوم البيان وما ورد عنه عفو الخاطر فهو جميل ومقبول.
ب-عيوب المضمون:
1-عدم مناسبة الكلام لمقتضى الحال.
2-التعمق في المعاني يبعد القارئ عن أغراض الشعر ويجعل الجرجاني التعقيد في الشعر على قسمين –الأول بسبب خفاء معاني الشعر حيث تموت بعض الألفاظ فيغيب معناها على الأجيال اللاحقة والثاني يؤدي سوء النظم فيه إلى خفاء المعنى واتساعه لتأويلات عديدة كما ينتج عن التكلف تفاوت في النسيج الشعري وينغص على المتلقي نشوته عند سماع الشعر.
7-السرقة وأنواعها: يسهب الجرجاني في موضوع السرقات ويبين أنواعها ويظهر ما هو مباح وما هو محظور منها.
ثالثاً-عمود الشعر:
لا شك أن الحديث عن الموهبة وطرق صقلها لم تمنع الجرجاني من البحث في الشعر المثالي فالشعر حسب ما يرى يمثل كياناً قائماً بذاته و هو في معزل عن البديع و الفكر ويرى قوامه يتحدد بعمود الشعر. وهو عند الجرجاني يتحدد عناصر تكوينية وعناصر جمالية وعناصر تعود إلى قوة القريحة.
آ-العناصر التكوينية:
1-شرف المعنى: أي سمو المعنى ومناسبته لمقتضى الحال.
2-صحة المعنى أي اشتماله على الصحة المنطقية وتمشيه مع مبدأ الجودة المثالية أي تحويل الموصوف إلى مثل أعلى في جنسه.
3-جزالة اللفظ: وهي صفة تغلب على الأسلوب الذي لا هو بالضعيف الركيك ولا الغريب المعقد وهو ما أسماه الجرجاني (بالنمط الأوسط) وهو ما ارتفع عن الساقط السوقي وانحط عن الوحشية.
4-استقامة اللفظ: وتعني دقة اللفظ في أداء المعنى وإيحاءه وسهولته وألفته على الأسماع فلا يكون غريباً أو بعيداً عنه.
ب-العناصر الجمالية:
1-الإصابة في الوصف: والوصف في عرف النقاد محاكاة وتمثيل لفظي للشيء الموصوف وهو إما وصف مادي أو وصف للمشاعر والأحاسيس.
ج-قوة الطبع وتدفق القريحة: وهي القدرة على الارتجال لما يتداعى إلى هذا الذهن من العبارة المأثورة وسرعة رد الفعل تجاه المؤثرات الخارجية.
د-بنية القصيدة: وقد رأيت أن لا أبحث في هذا الموضوع تحت بند مستقل لأنه يشكل في رأيي تتمة وتكملة لعمود الشعر ويركز الجرجاني في هذا الصدد على مفاصل القصيدة (الاستهلاك-الابتداء-التخلص- الختام) فالشاعر الحاذق يجتهد في تحسين الاستهلاك والتخلص وتجميل الخاتمة وهي المواقف التي تستعطف أسماع الناس وتستميل قلوبهم إلى الإصغاء وينضوي تحت هذا البند ما سماه الجرجاني مفهوم وحدة القصيدة كما فعل عند تحليل قصيدة جرير إذ أكد على الوحدة الفنية أو الشخصية الفنية حين نفى الأشعار المنسوبة إلى الأقيشر لأنها لا تحمل ملامحه الأسلوبية لذلك قال بتقويم مجمل إنتاج الشاعر للحكم عليه. وقد بلغ من قيمة نظريته وأهميتها أن قال فيها الدكتور إحسان عباس "أن نظرية عمود الشعر رحبة الأكتاف واسعة الجنبات وأنه لا يخرج من نطاقها شاعر عربي أبداً وإنما تخرج قصيدة لشاعر أو أبيات في كل قصيدة وقد أساء الناس فهم هذه النظرية وحملوها من السيئات الكثير ولكنها أساس كلاسيكي رصين فالثورة عليها لا تكون إلا على أساس رفض الشعر العربي كله"(14).
القسم الثاني- وظيفة الشعر عند العرب:
هل للشعر وظيفة عند العرب...؟ وإذا كانت له وظيفة فما هي وظيفته. لا تقع عند العرب على تعريف صريح لوظيفة الشعر ولا يوجد لديهم مصطلح محدد لهذا الغرض بيد أن هناك ما يشير إلى هذه الوظيفة نستطيع التماسه من خلال النصوص المعروضة والآراء المبثوثة في مؤلفاتهم الأدبية المختلفة. ولعل أوضح نص يواجهنا في هذا المجال هو نص ابن سينا الذي يحدد الغرض من قول الشعر بجانبين-أحدهما التأثير في النفس للقيام بفعل معين أو إظهار انفعال ما وثانيهما هو الاستمتاع بالجمال والإعجاب به حيث يقول "وكانت العرب تقول الشعر لوجهين أحدهما ليؤثر في النفس أمراً من الأمور تعد به نحو فعل أو انفعال والثاني للعجب فقط فكانت تشبه كل شيء لتعجب بحسن التشبيه"(15). وقد حدد القيرواني صاحب كتاب العمدة وظيفة الشعر ببعث، مكارم الأخلاق في النفوس وتأصيل ذلك في ملكة ا لأبناء حتى تصبح طبعاً فيهم وتصرفاً ذاتياً أو سلوكاً عفوياً فيما يأتون وفيما يدعون فقد قال تحت عنوان النثر يسبق الشعر "وكان الكلام كله منثوراً فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها وطيب أعراقها وذكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة وفرسانها الأنجاد وسمحائها الأجواد لتهز أنفسها إلى الكرم وتدل أبناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض جعلوها موازين فلما تم لهم وزنه سموه شعراً لأنهم شعروا به أي قطنوا"(16).
ومما يؤكد ما ذهب إليه ابن رشيق صاحب كتاب العمدة ما رواه ابن عائشة عن الرسول e "الشعر كلام من كلام العرب جزل تتعلم به في بواديها وتسل به الضغائن من بنيتها"(17).
وأنشد ابن عائشة قول أعشى بن قيس لـ بن ثعلبة:
والشعر يستنزل الكريم كما
يَنزل رعدُ السحابة السبلا
وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى أبي موسى الأشعري قائلاً "مر من قبلك" بعلم الشعر فإنه يدل على معاني الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب"(18) وقال معاوية بن أبي سفيان يجب على الرجل تأديب ولده والشعر أعلى مراتب الأدب. وقال اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر دأبكم فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفين وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض وأنا أريد الهرب لشدة البلوى وما حملني على الإقامة إلا الأبيات عمر بن الأطنابة(19).
أبت لي همتي وأبى بلائي
وأخذ الحمد بالثمن الربيح
وأقحامي على المكروه نفسي
وضر بي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تسترحي
لأدفع عن مأثر صالحات
وأحمي بعد عن عرض صحيح
وقد جاء في أحكام صنعه الكلام للمعري "لا تجهلوا فضيلة الشعر فإنه يذكر الناس ويحل عزمه الفاتك ويعطف مودة الكاشح ويشجع الجبان"(20).
ومن الملاحظ من خلال ما تقدم أن للشعر وظيفة مهمة وضرورية أما كونها مهمة فلأنها تتعلق بالقيم السلوكية وأما كونها ضرورية فلأنها تؤدب الأولاد بأعلى مراتب الأخلاق.
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه
وربما تعود هذه الوظيفة إلى طبيعة المجتمع العربي وخصائصه إلى قيمه وأدبه ومثله التي اقتضتها طبيعة حياة العربي وتكوينه النفسي التي ميزت مجتمعه عن غيره من المجتمعات وعلى الأرجح أن تكون هذه القيم قد تفرعت عن قيم الحق والخير والجمال التي فطر الإنسان عليها والتي سرعان ما تفسدها بعض النوازع الشريرة فيأتي الشعر فيوقظها ويؤججها ليعيدها إلى سيرتها الأولى. ومن هنا جاء تمسك العرب بالشعر وانصرافهم إليه فقد روي عن النبي e "لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين"(21).
وقد أكد حازم القرطاجني فيما بعد على أن الغاية من الأقاويل الشعرية هي أحداث التأثير والانفعال في النفوس الإنسانية بحيث تحمل على عمل شيء أو اعتقاده أو تجنبه وأن أدخلها في الشعر هي ما اشتدت علقته بالإنسان واشتركت في القبول منها أو النفور الخاصة والعامة بحكم الفطرة ويستشهد حازم القرطاجي في ذلك بقول الفارابي "بأن الغرض المقصود بالأقاويل المخيلة أن ينهض السامع نحو فعل الشيء الذي خيل فيه أمر ما من طلب له أو هرب عنه"(22).
ونلاحظ أن وظيفة الشعر التأثيرية ما زالت تستأثر بالأدباء حتى الآن فقد أورد الدكتور محمود الربيعي في كتابه الشعر أن الشعر من وجهة نظر الرومانتيكية لا يقتصر مفهومه على التعبير عن العواطف وإنما يتجاوز ذلك إلى شيء آخر هو توصيل هذه العواطف المعبر عنها إلى نفوس القراء والسامعين على نحو يثير لدى هؤلاء المتلقين عواطف شبيهة بالعواطف التي يوصلها إليهم هذا الشعر. ويدعم الربيعي رأيه برأي شكري في تعبيره عن هذه الفكرة في قوله "وليس الشاعر الذي يملأ آذان قومه بالمعاني الجديدة والآراء الجليلة وإنما الشاعر الذي يملأ قلوبهم بالرغائب والذي يقوي عواطفهم لأن العواطف هي القوة المحركة في الحياة والأديب العظيم هو من كانت كلماته كهرباء النفوس هو الذي يحرك النفس كما يحرك العواد عوده فيوقع عليها من الألحان ما تهتاج له قوى النفس في أعماقها هو الذي يجعل لكل عاطفة من عواطف النفس روحاً وحياة شخصية لأن النفوس يعلوها صدأ مثل صدأ المادة ولا يجلو عنها هذا الصدأ إلا ما يحرك أعماقها والنفس كالماء الراكد الذي تعلوه المواد العطنة وكما أن هذا الماء الراكد لا يجدده غير تيار جديد كذلك الروح ينبغي أن تكون عرضة للتيارات الروحية وليست حياة الأديب إلا تياراً من تلك التيارات التي تحرك النفس"(23).
وتتوضح وظيفة الشعر من خلال الأغراض التي طرقها العرب كالمديح والهجاء والرثاء والغزل وما يرد عليها. وقد بين قدامة بن جعفر أن أغراض الشعر إما أن يكون موضوعها الإنسان أو الموصوف وإما أن يكون موضوعها الشيء الموصوف وهو يجمع بين هذين بالرابطة الصورية (التشبيه) ويقول أيضاً "إننا إذا استثنينا الوصف وهو موضوع مشترك بين الناس والأشياء فإن الأربعة الأول أي المدح والهجاء والرثاء والغزل ليست إلا منحاً للصفات أو سلباً لها. فالمدح يتطلب صفات إيجابية تسلب في الهجاء وتحول إلى الرثاء أو تحور عن قاعدتها الأصلية في الحديث عن النساء" ويجعل للنسيب صلة بالأخلاق فيقول في تعريفه النسيب "إن النسيب ذكر الشاعر خلق النساء أو أخلاقهن وتصرف أحوال الهوى معهن"(24).
وعلى هذا فكما يتبين من نص قدامة السابق أن المدح هو منح للصفات وأن بقية الفنون الشعرية تنطلق في الأصل من هذه الصفات فإما أن تكون سلباً لها كما هي في الهجاء أو تحول إلى مناقب كما هي في الرثاء أو تحور عن قاعدتها الأصلية إلى الغزل. والمدح كما يبدو من كلام قدامة تتفرع عنه بقية الأغراض الشعرية الأخرى. ومن الملاحظ أن هذه الصفات تركز على القيم الأخلاقية الرفيعة (العقل والعفة والعدل والشجاعة) وهي الصفات الكريمة والخلال الحميدة التي اعتمد عليها العربي في ترسيخ مكارم الأخلاق في نفوس الناشئة ثم إثارتها وبعثها والتذكير بها لتصبح قدوة في المجتمع ومثالاً يحتذى للآخرين. وقد ذكر قدامة هذه الفضائل وما يتفرع عنها حيث قال:
"لما كانت فضائل الناس من حيث هم ناس لابن طريق ما هم مشتركون فيه مع سائر الحيوانات على ما عليه أهل الألباب من الاتفاق في ذلك إنما هي العقل والعفة والعدل والشجاعة كان القاصد للمدح بهذه الأربعة مصيباً وبما سواها مخطئاً ويتفرع عن هذه الفضائل الأربعة الكثير من القيم كما ينشأ من تركيبها بعضها مع بعض أقسام إضافية مثل العقل مع الشجاعة كالصبر على الملمات ونوازل الخطوب والوفاء وكذلك العقل مع السخاء وغيرها مما تريد أبعاد هذه الفضائل ويولد بعضها من بعض".
وقد ذهب ابن طباطبا في عيار الشعر هذا المذهب ولكن مع بيان للحالات التي يكون فيها المتعلق بالخصال الحميدة أفضل من غيره مع أنهما يقومان بالفعل نفسه فالجود من المعسر أهم والبخل من الميسور أشنع وعلى ما يبدو فقد انفرد ابن طباطبا في إظهار هذه الناحية فيقول "وللعرب مثل عليا هي متكأهم في المدح والهجاء" منها الخلق الجمال والبسطة ومنها في الخلق كالسخاء والشجاعة والحلم والحزم والعفاف والبر والعقل والأمانة فهذا ما يمدح به كما أن أضدادها تصبح موضوعاً للهجاء على أن هناك حالات تؤكد هذه المثل فالجود في حال العسر أهم من مجرد الجود والبخل من الواجد القانع أشنع.. وهكذا تتخذ هذه المثل نفسها مراتب متفاوتة تتشعب منها فنون القول وصنوف التشبيهات.
ولعل وقفة قصيرة على بعض الأغراض الشعرية تظهر وظيفة الشعر من خلال بعض الشواهد يقول زهير مادحاً: (26)
أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله
ولكنه قد يهلك المال نائله
تراه إذا ما جئته متهلاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
بماذا وصف زهير ممدوحه لقد وصفه بالعفة لقلة إمعانه في اللذات وإنه لا ينفذ فيها ماله ثم وصفه بالسخاء لإهلاكه ماله بالنوال وانحرافه بذلك عن اللذات و ذلك ما يقتضيه العقل في حين أراد في البيت الثاني أن فرحه بما يعطي أكثر من فرحه بما يأخذ وزاد في وصف السخاء منه بأن جعله يهش ولا يلحقه مضض ولا تكره لفعله. فإذا كان هذا هو شأن المدح فما هو شأن الرثاء وما هي الفضائل والقيم التي يعالجها إن الإجابة على ذلك سهلة وميسرة إذ أن ليس بين الرثاء والمدح فرق إلا أنه يخلط بالرثاء شيء يدل على أن المقصود به ميت. ونورد فيما يلي قطعة شعرية جمعت بين الرثاء والعتب قامت بوظيفتها التأثيرية خير قيام فقد أنشدت قتيلة بنت النضر بن الحارث ترثي أخاها هذه الأبيات لرسول الله e(27).
أيا راكباً أن الأثيل مظنة
من صح خامسة وأنت موفق
أبلغ به ميتاً بأن قصيدة
ما أن تزال به الركائب تحقق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
لله أرحام هناك تشفق
ما كان ضرك لو مننت وربما
من الفتى وهو المغيظ المحنق
والنضر أقرب من قتلت وسيلة
وأحقهم إن كان عتقاً يعتق
فقال النبي e لو كنت سمعت شعرها هذا ما قتلته فانظر كيف كانت قد أدت هذه القصيدة وظيفتها لو أنها وصلت إلى الرسول e قبل أن يقتل النضر وهو من ألد أعدائه.
والافتخار هو المدح إلا أن الشاعر يخص نفسه وقومه وكل ما حسن في المدح حسن في الافتخار وكل ما قبح فيه قبح في الافتخار.
أما العتاب فإنه حياة للمودة وشاهد وفاء إذا كان على اعتدال وله طرق وأساليب كثيرة وللناس فيه ضروب مختلفة ومما استحسنه النقاد في العتاب هو قول أبي عبادة البحتري(28)
يريبني الشيء تأتي به
وأكبر قدرك أن أستريبا
أكذب ظني بأن قد سخطت
وما كنت أعهد ظني كذوبا
ولو كنت أعلم ذنباً لما
تخالجني الشك في أن أتوبا
سأصبر حتى ألاقي رضاك
أما بعيداً وأما قريباً
أراقب رأيك حتى يصح
وانظر عطفك حتى يؤوبا
وكان العقلاء من الشعراء وذوي الحزم يتوعدون بالهجاء ويحذرون من سوء الأحدوثة ولا يمضون القول إلا لضرورة لا يحسن السكوت عليها. ولعل ذلك مذهب سديد يجعلهم يصلون إلى ما يريدون دون تجريح أو تطرف فانظر إلى جران العود كيف وظف الشعر في تحذير زوجته من النشوز عليه بقوله(29).
عمدت لعود فالتحيت جرانه
وللكيس خير في الأمور وأنجح
خذي حذراً يا خلتي فإنني
رأيت جران العود قد كاد يصلح
وعموماً فإن وظيفة الشعر في العتاب تنصب في التأكيد على قيم الوفاء والصبر على الصديق ومحاولة إرضائه بشتى السبل وغيرها أما الإنذار والتوعد والتلويح وإظهار فائدة العودة إلى الصواب والانصراف إلى الحكمة أفضل وأجدى من أي طريق آخر.
أما وظيفة الشعر الغزلية فتأتي للتوكيد على القيم الجمالية الوصفية وقيم الحب والشوق والحنين والوفاء واللوعة وما إلى ذلك ففن الغزل واسع جداً ويحتاج إلى بحث خاص غير أنه يمكن أن نتبين من خلال بعض الأشعار وجهاً أو أكثر من وظائف الشعر. ويعلق قدامة بن جعفر على البيتين التاليين اللذين عدهما من أحسن الغزل(30).
يود بأن يحيى سقيماً لعلها
إذا سمعت عنه بشكوى تراسله
ويهتز للمعروف في طلب العلا
لتحمد يوماً عند ليلى شمائله
فيقول إنهما يدلان على الربط بين الحب والمعروف وأن ليلى امرأة تحب الشمائل الحلوة التي تدفع صاحبها إلى طلب العلا وإلى مستوى أخلاقي رفيع. فالنسيب عنده ذكر الشاعر خلق النساء وأخلاقهن وتصرف أحوال الهوى به معهن.
ومن أوجه الغزل وأقدمها وجه الجمال الممتع فما القصيدة إلا لوحة أخاذة تحمل من القيم الجمالية ما يسحر ويأخذ بالألباب كما يقول المرار العدوي(31).
وهي هيفاء هضيم كشحها
فخمة حيث يشد المؤتزر
صلة الخد طويل جيدها
ضخمة الثدي ولما ينكسر
وانظر إلى أبي نواس يقدم هذه اللوحة الجميلة(32).
كأن ثيابه أطلعن
من أزراره قمرا
يزيدك وجهه حسناً
إذا ما زدته نظرا
بعين خالط التفتير
من أجفانها الحور
وخد سابري لو
تصوب ماؤه قطرا
لا أريد أن أستفيض في وجوه الغزل فيكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق غير أنني أستطيع أن أقول أن الشعر الغزلي استطاع أن ينقل القيم الأساسية مع تصعيد عليها في بعض الأحيان بأثر من الحس المرهف والبيئة والثقافة. وبعد أن تبينا أن للشعر وظيفة مهمة وضرورية نستطيع أن نعرف وظيفته من خلال ذلك وهي "إن وظيفة الشعر العربي هي إيقاف الفضائل أو القيم الأساسية التي آمن بها الإنسان العربي وإنمازنها مجتمعة واقتضتها ظروفه الحياتية وفطرته السليمة عن طريق التعبير بثوب جمالي لائق وجذاب".
وفي الختام وبالرغم من أن لكل أدب خصوصيته وأسبابه ودواعيه فإن مصطلح نظرية الأدب لم يوجد عند العرب كما وجد عند الغربيين غير أن المفهومين اللذين تقوم عليهما النظرية وهما طبيعة الأدب ووظيفته أثارا الاهتمام ودفعا إلى بحثهما وتلمس حدودهما وأبعادهما لدى الأدب العربي.
ونظراً للمكانة التي احتلها الشعر عند العرب والمساحة التي أخذها من حياتهم بالمقارنة مع الفنون الأدبية الأخرى لأنه ديوانهم كما كانوا يؤكدون فقد جرى تحديد البحث في هذين المفهومين على الشعر فقط.
ولدى البحث والتنقيب فقد تبين أن للشعر العربي طبيعة وحدوداً ومقومات خاصة به وإن لبعض هذه الحدود قداسة بإجماع الدارسين والنقاد العرب القدامى. كما ظهر من خلال النقد العربي والمقولات المختلفة التي قالها العرب في العشر ومن النصوص المختلفة التي كانت تؤدي وظائف معينة أن للشعر العربي وظيفة واضحة عرفها العرب ووعوا أبعادها واعتمدوا عليها بحياتهم الواقعية.
وفي الختام أرجو أن يكون قد كشف هذا البحث عن نظرية الأدب بل نظرية الشعر عند العرب وبلورها في إطار واضح وبين أن المبدأين هما طبيعة الشعر ووظيفته قد تعرض لهما العرب بشكل أو بآخر.
المراجع حسب ورودها في النص
(1)د.خطيب حسام – محاضرات في تطور الأدب الأوروبي- مطبعة طربين دمشق 1975 ص350.
(2)أوستن وارين ورينيه ويليك –نظرية الأدب ترجمة محي الدين صبحي مراجعة الدكتور حسام الخطيب –مطبعة خالد الطرابيشي- دمشق 1973 ص19.
(3)قدامة ابن جعفر –نقد الشعر- طبعة ليدن- 1956.
(4)مجلة الشعر –العدد 12-1959- ص91.
(5)د. عباس إحسان –تاريخ النقد الأدبي عند العرب- دار الأمانة والرسالة بيروت- 1971- ص412.
(6)ابن رشيق القيرواني –العمدة- المكتبة التجارية الكبرى- القاهرة- 1955-ص-134-150.
(7)المرجع رقم (6).
(8)الجاحظ –الحيوان- مكتبة النوري وشركة الكتاب اللبناني- بيروت 1968- ص 54.
(9)المرجع رقم (5) ص 219.
(10)بنت الشاطئ –الغفران- دار المعارف- القاهرة- 1954 ص200.
(11)مرجع (5) 266.
(12)مرجع (2) ص218.
(13)اتحاد الكتاب العرب بدمشق –مجلة التراث- د. علواني مصطفى "الباحث نفسه".
نظرية الموهبة المصقولة وعدالة الناقد عند القاضي الجرجاني العدد 37-38- دمشق 1990- ص226-232.
(14)مرجع (5) ص405.
(15) مرجع (5) ص414.
(16) مرجع (6) ص20.
(17)العمدة ص28 ولكن الحديث ليس موجوداً في الصحاح العشرة ولا مستدرك الحاكم ولا مجمع الزوائد.
(18)مرجع (6) 28.
(19)مرجع (6) 29.
(20)الكلاعي ابن عبد الغفور –أحكام صنعة الكلام- تحقيق د. رضوان الداية دار الثقافة بيروت 1966 ص38.
(21)العمدة ص 30 والحديث الشريف ليس موجوداً في الصحاح العشرة ولا مستدرك الحاكم ولا مجمع الزوائد.
(22)مرجع (5) ص556.
(23)د. الربيعي محمود الشعر دار المعارف –طبعة رابعة- القاهرة 1977 ص 111.
(24)مرجع (5) ص212.
(25)ابن طباطبا –عيار الشعر- ص12.
(26)العمدة جزء 2 ص130.
(27)د. ضيف شوقي –الشعر والغناء في المدينة والحجاز- دار الثقافة- بيروت 1967 ص291.
(28)ديوان البحتري –طبعة دار المعارف- جـ1- القاهرة 1963 ص 51-53.
(29)العمدة جـ1 ص 48.
(30)المرجع (5) 212.
(31)العمدة ص 118.
(32)العمدة جـ 1212.
--------------------------------------------------------
[1]يعد علي بن عبد العزيز الجرجاني من أهم نقاد العرب وجد في القرن السابع الهجري وانماز بحسن مرهف وذوق رفيع ودراية كبيرة قلما تأتت لغيره فضلاً عما كان يتمتع به من دماثة في خلقه وعدالة في محاكمته. ولي القضاء وكان يرى رأي المعتزلة. انظر بحثنا عن الجرجاني من مجلة التراث السورية الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب دمشق العدد رقم 37، 38 دمشق 1990).
عبدالله بن حامو- عضو فعال
- عدد المساهمات : 94
نقاط : 5429
تاريخ التسجيل : 31/07/2010
العمر : 36
الموقع : تمنراست
رد: نظرية الأدب عند العرب ـــ د.مصطفى العلواني
شكرا على هذا الجهد المبذول
وفقك الله
وفقك الله
ونشريس- عضو ممتاز
- عدد المساهمات : 393
نقاط : 4994
تاريخ التسجيل : 20/09/2012
مواضيع مماثلة
» ألوان الأدب الأسود .. كتاب في الأدب الإفريقي
» في نظرية الرواية لمرتاض ,, للتحميل
» نظرية صناعة الحياة .. فن استثمار العمر..
» أصول تراثية في نظرية الحقول الدلالية .. للتحميل
» فضل العرب على العالم
» في نظرية الرواية لمرتاض ,, للتحميل
» نظرية صناعة الحياة .. فن استثمار العمر..
» أصول تراثية في نظرية الحقول الدلالية .. للتحميل
» فضل العرب على العالم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأربعاء 20 ديسمبر 2023, 10:55 من طرف مدير المنتدى
» العدد الثالث من مجلة " آفاق علمية "
الأحد 01 أغسطس 2021, 10:21 من طرف Houcine22
» الشاعر منتميا وملتزما
الأحد 14 أكتوبر 2018, 20:12 من طرف مدير المنتدى
» العرب وكرة القدم
الإثنين 02 يوليو 2018, 20:10 من طرف مدير المنتدى
» الخامس من يوليو (جويلية) مجددا
الإثنين 02 يوليو 2018, 19:42 من طرف مدير المنتدى
» أهلا بشهر التوبة والغفران
الأربعاء 07 يونيو 2017, 11:21 من طرف أسير القافية
» لو عثرت بغلة في العراق ...
الجمعة 03 مارس 2017, 20:17 من طرف أسير القافية
» مسابقة الدخول إلى مدرسة الدكتوراه بتامنغست
الخميس 06 أكتوبر 2016, 16:21 من طرف أسير القافية
» وما بكم من نعمة فمن الله
الخميس 06 أكتوبر 2016, 15:58 من طرف أسير القافية