المواضيع الأخيرة
بحـث
سحابة الكلمات الدلالية
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
مدير المنتدى | ||||
أسير القافية | ||||
ونشريس | ||||
محب العلماء | ||||
هويدا | ||||
حمداوي عبد الرحمان بن قاس | ||||
شوقي نذير | ||||
الأصيل | ||||
تحيا الجزائر | ||||
عبدالله بن حامو |
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 36 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 36 زائر :: 2 عناكب الفهرسة في محركات البحثلا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 53 بتاريخ الأحد 14 أبريل 2019, 17:47
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 1352 عُضو.آخر عُضو مُسجل هو روفي فمرحباً به.
أعضاؤنا قدموا 3419 مساهمة في هذا المنتدى في 1524 موضوع
أزمة لغة أم أزمة إنسان؟
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
أزمة لغة أم أزمة إنسان؟
أزمة لغة أم أزمة إنسان؟
محمد عدناني
1 - ذكرى
مَغَانِي الشِّعْبِ طِيبًا فِي الْمَغانِي***بِمَنْزِلَةِ الرَّبِـيعِ مِـنَ الزَّمانِ
وَلَكِنَّ الْفَـتَى العَــرَبِيَّ فِـيها***غَريبُ الْوَجْهِ واليَدِ واللِّسانِ
وجد المتنبي نفسه غريبا في شِعْبِ بُوان بِشِيراز/ فارس، فلم يجد إلا الشِّعر أنيسا لتبديد غُرْبَةِ الأشياء عنه ووحشة الخَرَسِ التي لَفَّتِ المكان. فماذا يقول عربي وسط عرب أدركهم الإفلاس اللغوي فأصبحت ألسنتهم قريبة من العَجَمِ وإن كانوا ينطقون ما يشبه العربية. تماما كما أصبحت أفئدتهم خواءً لا يملؤها إلا الهَوَا (بألف ممدود امتداد الأسى في نفوس الشُّرفاء من واقع مُهْتَرِئٍ).إنني لست من النُّزوعِيِّين الذين تُنازعهم شهواتهم فيظلمون أنفسهم والآخرين، ولكني أرى اللغة العربية تتآكل يوما بعد يوم أمام العرب ومن قِبَلِهِم أيضا، كما تتآكل كل قِيَمِهِم النبيلة. فلماذا تغيب اللغة العربية أو تُغَيَّبُ بمشيئة من يُفْتَرَضُ فيهم أنهم حُماتُها من التَّشَظِّي؟ هل صدق من قال: "حارسها سارِقُها" ؟
إن اختزال الأسئلة الكبرى في هذين السؤالين التبسيطيين ( وما أصعب قَبول التبسيط حين تتعود النفوس على التعقيد !)، لا يعني أن مُقاربة الإشكال أمر هَيِّنٌ، بل عسير جدا وضبط خيوطه المُتماهية يكاد يكون مُحالا. ولذلك أسباب نختزلها، للتيسير، في طبيعة الشخصية العربية المعقدة جدا التي يحملها الإنسان العربي والتي لا تسمح له حتى بمعرفة ماذا يريد في كثير من الأحيان. وقد لا يُلام على هذا الجهل الآسر لرغباته إذا ما أدركنا أنه نِتاج خالص لتراكمات فكرية وعَقَدِية تحولت من قِيَمٍ سامية مميِّزة للشخصية العربية إلى قِيم مُدانة من قِبل الآخر، بل وَمُبَرَّءٌ منها من قِبل العربي نفسه، ليعيش انفصاما حادا وتمزقا قاتلا يتضاعف عند المغاربة بشكل مخيف إلا من بعض البَوارِق التي (تمثل وعيا فرديا لا غير) تظهر هنا وهنالك ليس بوسعها فعل أي شيء أمام سلطة الظلام المكينة.
2- اللغة العربية وأثر السيرورة التاريخية عليها
إن ما بين صفاء اللغة العربية وضبابيتها زمن بعيد تلاحقت عبره مجموعة من الأحداث جعلتها كما نرى الآن. فمن الانفتاح على ثقافات الأمم الأخرى كالفُرس والرومان والهنود نتيجة الفتوحات الإسلامية وامتزاج الدم العربي بالمَوالي، إلى عصور الانحطاط والتقهقر (وبأخف تعبير: نهاية العصر الوسيط) التي كانت بداية لأسوءِ ما يمكن أن يصيب اللغة رغم المحاولات المتكررة، إن في شكل فردي أو عبر مدارس ومذاهب لاستعادة مجد هذه اللغة الآفِل، ثم السعي إلى تطويرها.
فكان عصر النهضة محاولة جريئة لإعادة بناء اللغة واسْتيحائها من منابعها الصافية مع الكلاسيكسة الجديدة التي فتحت أمام حركات التطوير والتجديد الباب واسعا لإكمال مشروع البعث والإحياء. غير أنه أُجْهِزَ عليه لانكماش المشروع الحضاري العربي بِرُمَّتِهِ جراء الانتكاسات المتلاحقة التي كان آخرها استسلامه لسلطة العثمانيين ثم الاستعمار الأوربي الذي عَمَّقَ الجراح. فلا ندري كم زمنٍ تحتاج عملية المُعالجة؟ ! كل ما نعلمه علم اليقين أن ردة فعل العرب بطيييييييئة، قريبة جدا من المنعدمة.
حل الاستعمار إذن فاجْتُثَّتِ الأصول وتأصَّلت الفروع وذاب الضعيف في القوي فَسَهُلَ التَّغْرِيبُ وتَيَسَّرَت عملية التَّباعُدِ بين الإنسان العربي وقِيَمِهِ المادية والمعنوية الروحية، وعمل المستعمر على تكسير كل القواعد، وقطع الأواصر الواصلة بين العربي وأشد علاقاته حميميةً.
إن ما يهمنا من هذا الجرد التاريخي البسيط للأحداث هو عرض العوامل التي ساهمت، بشكل أو بآخر، في تكريس الأزمة الواقعة أصلا.
وقد يقول مُكابر، وما أكثر المُكابرين في زمن الإفلاس، إن العرب لم يكونوا لسانا واحدا، بل لهجات مختلفة قاد الاختلاف بينها إلى القتل أحيانا ( مشهورة حادثة قتل الأسير نتيجة اختلاف معنى كلمة أَدْفِئْهُ التي تعني الدفء وتعني القتل أيضا، ولسوء حظه فحارس السجن مِمَّنْ تُرادف عندهم كلمة الدفء معنى كلمة القتل، فَقُتِلَ ).
نعم إن طَيِّءْ وتميم وعَبْس وأَسَد وذُبيان وهَوازن وهُذيل ... كلهم تداولوا لهجات مختلفة، لكنها لغات فصيحة وليست دَوارِجَ معطوبة هي إلى العجم أقرب، وما الاختلاف بين هؤلاء مُحَدِّدٌ لشكل اللغة أو مضمونها، وإنما هو بدائلُ اختيارية وجدتْ تَوَحُّدها الكبير في لغة قريش التي كانت مقياسا من مقاييس جودة الشعر دون أن تُلغي أو تُقَلِّلَ من شأن الاختلاف. بل إن القرآن الكريم نفسه احترم هذه اللهجات اللغات بالرغم من أنه نزل على لسان قريش. وما اختلاف القراءات إلا وجها من أوجه هذا الاحترام. فهل هناك ما هو أسمى من القرآن؟ !
فالاختلاف إذن لا يعني طَمْسَ معالم الوحدة والإجهاز على عناصر التَّوَحُّدِ كما هو الآن، وإنما هو مَسارِب ضرورية لإعطاء اللغة حيويتها.
3- اللغة العربية والمحيط اللغوي
لا شك أن الحديث هنا يُخْتزل في علاقة اللغة العربية بالفرنسية باعتبارها لغة ذات سلطة ونفوذ في المجتمع المغربي، دون أن نغفل الإسبانية والإنجليزية، التي أصبحت بِقُدْرَةِ قادر لغة عالمية، إضافة إلى الأمازيغية كلغة مغربية أصيلة عرف النقاش حول علاقتها بالعربية مستويات وصلت حد الهجوم والدفاع عن هذه العلاقة من قبل العرب ومن قبل الأمازيغيين أنفسهم.
إن مُسَوِّغَ الحديث في علاقة اللغة العربية باللغات الأخرى هو العلاقة التاريخية القديمة التي جمعتها بكل اللغات. والنظر في هذه العلاقة يفرض علينا النظر في أمرين: أولهما مدى إحساس أبناء الأمة العربية بقيمة لغتهم وثانيهما النظر إلى موقع العرب حاليا على الساحة الدولية. وللأسف الشديد فالانطلاق من هذين العنصرين يوصل إلى نتيجة مؤلمة تعاكس رغبة في أنفسنا تود إعلاء شأن اللغة. فإحساس العرب بلغتهم إحساس سلبي ( مع الاستثناءات طبعا) تشوبه عدة معتقدات تكرس واقع الاضمحلال بعد هيمنة الغزو الأوربي وفرض لغته. الأمر الذي وَلَّدَ في الأنْفُس شعورا بالتَّدَنِّي والنقص، بدا لأصحاب هذه النفوس أنَّ تجاوزَ هذه المشاعر لن يكون إلا بالانتساب إلى الغرب ولو بالحذلقة لأن هؤلاء يرفضوننا حتى ونحن نتذلل لهم.
وليس العيب، من حيث المبدأ، أن نفقه لغة هؤلاء، ونعقل خصائصها جيدا.،فهذا مطلب لا يجوز للعربي إعفاء نفسه منه، ولكن بعد أن يفهم لغته الأصل أولا، كما كان يفعل العرب في علاقاتهم مع الأقوام المتاخمة لهم، لا كما نفعل نحن اليوم.
إنه لأمر غريب حقا أن نرى هذا الإقبال المتزايد على اللغات الأجنبية في مقابل هذا الإهمال الشديد للغة العربية التي لم تشفع لها دساتير الدول العربية بكونها اللغة الرسمية، ولا مخاطبة الملوك والرؤساء شعوبهم بها في المناسبات المُفْرِحة والمُحزِنة، ولا كونها لغة الدين الرسمي الذي لا يختلف حاله عن حالها.
والأغرب أن بُسطاء الناس وَوُجَهاءَهُم فَرحون بهذا الإقبال، مُنشرحون لِتَغَذِّيهِم على فُتات اللغات الأخرى. وتراهم يبذلون الغالي والنفيس لتعليم أبنائهم الفرنسية أو الإنجليزية. ها قد تعلموها وأتقنوها، فماذا بعد؟؟؟؟؟ !!!!!!
4- اللغة العربية والمؤسسات التعليمية
لأن الأعمال بِخَواتِمِها سنبدأ في هذا المحور من حيث انتهاء المؤسسات التعليمية إلى النتائج المُسَطَّرة من قبل المسؤولين . وبدون مزايدات فالنتيجة معروفة لدى الدَّانِي والقاصِي، فلا دولة عربية تحتل مرتبة متوسطة، في أحسن الأحوال، على مستوى البحث العلمي، بل إن جامعاتها التي تحتضن شُعَبا ومسالِكَ للدراسات العربية "لغة وأدبا" تُخَرِّجُ أفواجا من الجَهَلَةِ بأبسط أدبيات اللغة وما يحيط بها من معارف، إلا مَنْ بَذَلَ جهدا خاصا مَكَّنَهُ من امتلاك ما يحفظ به ماء الوجه، وإن أصبح تَدَنِّي المستوى لا يطرح مُشكلا في بلاد لا تهتم للعلم والمعرفة، قدر اهتمامها بتجميع الأموال وتبديدها هنا وهناك وهنالك لإرضاء شهوات دنيئة تضر صاحبها ومن يحيط به، وتُضيع حقوق الأمة في الرقي. ولا مجال للتفصيل فالقضية أوضح من الشمس في اليوم الربيعي.
لقد مر أكثر من نصف قرن على تمتع المغرب، ومعه جُلُّ الدول العربية، على التمتع بالاستقلال، وطوال هذه المدة كان التوجه نحو خلق مؤسسات تعليمية عمومية الهدف منها خلق أُطُرٍ وطنية ذات كفاءات وتكوين ثقافي عربي أصيل بعد التغلب على الأمية والجهل اللَّذَيْنِ لا زالا مهيمنين، فأمة "إقرأ" تحتل المرتبة الأولى في الأمية بين دول العالم .والغريب أن التعليم الخاص في مرحلة الاستعمار وبُعَيْدَهُ أثمر رجالا جَهابِذَةً في اللغة وعلومها، بينما أنتج التعليم العمومي شعب "حَيْصَ بَيْص".
ومن غريبٍ أن هذا التوجه لم يحقق أبسط الأهداف المرجوة منه، على الرغم من المجهودات الجبارة التي بُذِلَتْ والتي لا يمكن للمُنْصِفِ إنكارها، فهل من سبيل إلى تَلَمُّسِ الأسباب الكامنة وراء هذا الإخفاق؟
بحجم المأساة تكون الأسباب ، ومأساتنا لا يلوح في الأفق القريب، على الأقل، بريق التخلص منها نتيجة لتضافر عوامل عدة نذكر منها:
أ - لم تكن هناك إرادة سياسية في حجم الشعارات المرفوعة لتطوير المدرسة والاهتمام بالبحث العلمي. ولا يبدو أنها موجودة أو ستكون في المستقبل. وكم هو عجيب حرف "السين" الذي يفتح للمسؤولين آفاقا رحبة لتخدير الناس بالوهم المطلق . ســ نفكر ســـ ننظر في الأمر ســ نجتمع ســ نفعل ســـ نعيد النظر فيما لم نفعل... وتضيع القضية.
ب - نتيجة لجلالة حرف السين تغلغل اليأس في نفوس المُشْرفين المباشرين على العملية التعليمية (معلمين وأساتذة)، فانشغلوا بأوضاعهم الاجتماعية أكثر من انشغالهم بالبحث العلمي الذي انتذبوا أنفسهم (وبعابرة أدق انْتُذِبُوا) لأجله، أي أنهم فشلوا في تحقيق الاستثناء في سياق الأزمة التي يمر به المغرب وكل العرب على كافة المستويات الحيوية. فكثيرا ما تحول هؤلاء إلى مُقاولين أو تجارا لسد الرمق أو الاغتناء، والمصيبة واحدة في الحالتين معا.
ت - مقاربة العملية التعليمية بحسابات مادية لا تلتفت إلى طبيعة تكوين رجال التعليم ومستواهم الثقافي، فكان الجفاف المعرفي أحد أبسط المظاهر الخطيرة التي يعانيها هؤلاء، وهو أمر غير مهم في نظر من تَسَنَّمُوا كراسي الخزينة والمالكين لمفاتيحها ما دام هؤلاء المُدَرِّسين لا يُكَلِّفون مالا تطيق رغبة المُتَسَنِّمِين. فلا بأس إذن من " التَّسْلاك" إلى حين" ولا يهم أن يتسرب إلى التعليم من لا يقوى على تركيب جملتين صحيحتين متجانستين ، فَيُعَوِّضُ ذلك بِسَفْسَافِ اللهجة، حتى أن التلميذ أو الطالب لا يدري أَجالِسٌ في المقهى أم في مؤسسة تعليمية؟
ث - استئناس رجال التعليم بهذا الوضع ورفضهم لكل محاولة جادة للرفع من مستواهم رابطين ذلك بضبابية المستقبل، وباليأس الذي يلاحقهم كما لاحق إخوانهم أو معارفهم، ليبقى الخيط الرابط بين التلميذ/ الطالب والأستاذ هو اليأس المتمكن من الجميع. وبقدر ما هو مُحِقٌّ هذا الربط، بقدر ما هو قريب من الحق الذي يُراد به الباطل، بقدر ما هو مُريح ومُعْفٍ لرجال الدولة من مواجهة جيل عالِم كَثِيرِ الإحراج لهم. فيكفي هذه البلاد أو تلك أن يكون "العلم" أو بالأحرى المناصب الرفيعة بشواهد، مشكوك فيها، من نصيب كُنْيَاتٍ "عريقة"، وكأن هذه البلدان قُدِّرَ لها أن تتوارثها عائلات فُلان وعِلاَّن...
ج - اعتماد الانتقائية في المقررات التي تقصي الأدب القديم وعلوم القرآن والحديث، علما أن أصل اللغة والأدب الرفيع يَكْمُن ها هنا، وذلك بدعوى الحداثة أولا، ومحاربة التطرف وبعبارة أكثر مباشرة الإرهاب كما رسمه الأسياد "لساداتنا" ثانيا.
ح - إخضاع التعليم لكثير من المراجعات في كل المستويات، ذات الطابع الترقيعي حتى صار دربلة. بالموازاة مع النزعة التجريبية التي أصبحت أصلا في العملية التعليمية.
خ - المفارقة العجيبة التي يحسها التلميذ بين ما يُصِرُّ عليه الأساتذة من ضرورة التكلم بلغة عربية فصيحة، وبين ما يراه في الشارع ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة... .
د - إن المؤسسات التعليم بانفتاحها على المحيط أصبحت ملتقى لكل ما هو رديء ومُبْتَذَلٍ، تغزوها كل السلوكات والأفكار السيئة، ولا ُتْنِتجُ، وليس في استطاعتها ذلك، أي معرفة مقاوِمة لهذا الاجتياح.
ذ - إن أحقر بناية حكومية هي المدرسة بكل مستوياتها، (لا تتميز عن كثير من البنايات الحكومية الأخرى ،خصوصا المستشفيات، إلا بالكثير من التهميش)، أما محتوياتها فتثير القَرَفَ. إذا لم تكن منعدمة. وفي زمن المظاهر فكل متسخ ومهدم وفقير يُسْتَهْزَءُ به استهزاء لا مثيل له.
ر - أَصَّلَ هذا الوضع في نفسية المدرس والإداري والمسؤول ... نَوازع دنيئة أَخَفُّها الغش واستغلال الفُرَصِ للتهاون...
ز – تَسَرُّب اليأس إلى المتعلمين وهم يَرَوْنَ جَحافلُ المعطلين " أصحاب الشهادات العليا من إخوانهم أو أصدقائهم أو أقربائهم أو جيرانهم..." تجوب الشوارع إما بائعةً متجولة أو مُطارَدَةً من قبل هَرَاوات المخزن بأمر مِمَّنْ وَقَّفُوا الكراسي عليهم بضربة حظ أو بالوراثة...
5- اللغة العربية ووسائل الإعلام
لا بد لمقدمات بالسوء الذي أتينا على ذكره من نتائج كارثية، وهذه النتائج كامنة هاهنا حيث وسائل الإعلام التي من المُفْتَرَضِ أن تُسَوِّقَ لغة راقية وتساهم بفعالية في نشر الوعي بقيمة اللغة تنظيرا وممارسة، تُكَرِّسُ واقع الاضمحلال والابتذال المَعيب لأمة الضاد. فالتلفزَةُ دارجَةٌ وقنوات الإذاعات دارجة من أرخص بضائع السوق يشترك فيها الزنادقة والمتسكعين والسفهاء... بِمُبارَكَةٍ من الجهات الوصية. أي انحطاط نعيشه؟ أي غيبوبة فكرية نحياها؟ أي انحلال بعد هذا الذي وَطَّنَتْهُ هذه القنوات في نفوس الناس الممتلئة بالأهواء، وفي الأفئدة الخَواء؟
لقد ساهمت هذه الوسائل في نشر الأخطاء الفادحة لغويا ونحويا ومعرفيا من خلال إصرارها على ترديد بعض المفاهيم أو الألفاظ دون وعي بمعناها الحقيقي، حتى أنها قد تؤدي معنى مخالفا للمراد إذا لم يكن مناقضا له، وأنا هنا أقصد الذين يحاولون الالتزام بخط اللغة أما وسائل الإعلام الدَّارِجَة المنحطة فتلك قصة أخرى. فلننظر إلى قولهم: دانت الدول العربية سلوك إسرائيل...فالمقصود أن هذه الدول أدانت (من الإدانة، وهو فعل رباعي يفيد الشجب والاستنكار " وهو أقصى ما يستطيع العرب فعله")، أما " دانت" فمن الفعل الثلاثي "دانَ، أي اعتنق دينا والتزم به". والواقع أن هذا الخلط والتناقض يعبر، من الناحية السياسية، عن تناغم تام بين الخطأ اللغوي والموقف العربي. أليس العرب يدينون الآن بدين إسرائيل؟. لآ أقصد اليهودية طبعا وإنما التوجه السياسي. ولننظر إلى قولهم: لم يَفْلَحِ اللاعب أو لم تَفْلَح المجهودات... وهم يقصدون النجاح، والحقيقة أن هذا الفعل الثلاثي يعني شق الأرض لفلاحتها. والأصح الفعل الرباعي أَفْلَحَ يُفْلِحُ. إن استشراء المصائب يجعل الاستمرار في جلب الأمثلة عقيما ولذلك نكتفي بالإشارة فهي أوضح من كل تفصيل.
6- رهان
على من وماذا راهن مُنَظِّرُو السياسة اللغوية في المغرب والبلاد العربية؟ وعلى من تراهن العربية لاستعادة وَهَجِهَا؟
بالاختصار المفيد فرهان كل منهما خاسر، فقد راهن المنظرون على اللغات الأخرى للتطور، وراهنوا على الغربيين وبرامجهم لتطوير العربية فزادنا هذا الرهان تخلفا، وزاد اللغة تدهورا . نعم كلنا نتواصل بالفرنسية ونَتَشَدَّقُ ببعض اللغات الأخرى بل نفتخر بذلك .. وماذا بعد؟ اللغة الفرنسية والإنجليزية لغة العلم ونحن نتقنهما ربما أفضل من أناسهما فهل أدركنا العلم ومارسناه في حياتنا الخاصة والعامة؟ هل أنتجنا ما يشفع لِلَوْكِنَا هذه اللغات واجْترارنا لألفاظها كما تَجْتَرُّ البهائم ما جمعت من أعشاب دون تمييز ؟ !.
أما رهان اللغة على أناسها فأكثر خُسْرانا، لأن هؤلاء مُسْتَلَبو الإرادة، ضعفاء الشخصية، مَقْهورو النفوس، شَهْوانِيو الأهواء... فُرادى وجماعات. فالفرد أسير ذاتيته أناني إلى الحد الأقصى انتهازي النُّزوع لا اعتبار للقيمة الجماعية عنده ( واللغة والدين أرقاها)، والمؤسسة الحكومية وغير الحكومية خاملة غير مجتهدة، مستكينة لعرف استعماري تجذر ليصبح أصلا بتواطئ مفضوح لهؤلاء .وبلغة أكثر مباشرة وتقريرية هل تفهم معنى دستور يقر بما لا يحتمل التأويل أن لغة البلاد الرسمية هي اللغة العربية ويخاطب أباؤها ، وأكثرهم "أميين" بلغة فرنسية من خلال وثائقهم ومراسلاتهم، حتى إن المطالبة بتعريب وثيقة ما يتطلب التَّوَهان في دهاليز المحاكم إذا.ما امتلك أحدهم الشجاعة لخوض هذه الحرب، وإذا وُجِدَ من يدعمه.
إن الذين يَلْوُون ألسنتهم بقولهم إن اللغة العربية ليست لغة علم لا يفقهون شيئا، بل عميت أبصارهم وأفئدتهم، ويجهلون تاريخ أمتهم. والذين يسلقون كل معتز وغيور على أسمى قيمه بالرجعي المتخلف الظلامي...، لا يعلمون أن مُكتشف الدورة الدموية عربي قديم. ولا يعلمون أن من أجرى أول عملية على الرأس عربي قديم. ولا يعلمون أن واضع أُسُسِ الجبر والحساب عربي قديم.. ولا يعلمون أن هذه الإنجازات التي لا تُذْكَرُ للعرب جهلا أو حسدا وإنكارا كانت باللغة العربية. كل ما يعلمن هو التملق للغرب
إن التاريخ البشري أثبت بما لا يدع مجالا للشك أو المُزايدات المجانية أن مسألة التقدم لا تُدْرَكُ بالمراهنة على لغة الآخرين، وإنما على علمهم بِلُغَتِنَا، وعلى عِلمنا بلغتنا ولغتهم. فهل تطور الفرنسيون والإنجليزيون باعتماد العربية؟ ! وهل تطورت الصين الآن وأصبحت قوة اقتصادية وسياسية عظمى تُوَجِّهُ العالم بغير اللغة الصينية؟ ! وما أَمْرُ إيران ببعيد علينا ! فهل مِن مُذَّكِرٍ؟؟؟
لله الأمر من قبل ومن بعد.
- منتديات أساتذة اللغة العربية -
محمد عدناني
1 - ذكرى
مَغَانِي الشِّعْبِ طِيبًا فِي الْمَغانِي***بِمَنْزِلَةِ الرَّبِـيعِ مِـنَ الزَّمانِ
وَلَكِنَّ الْفَـتَى العَــرَبِيَّ فِـيها***غَريبُ الْوَجْهِ واليَدِ واللِّسانِ
وجد المتنبي نفسه غريبا في شِعْبِ بُوان بِشِيراز/ فارس، فلم يجد إلا الشِّعر أنيسا لتبديد غُرْبَةِ الأشياء عنه ووحشة الخَرَسِ التي لَفَّتِ المكان. فماذا يقول عربي وسط عرب أدركهم الإفلاس اللغوي فأصبحت ألسنتهم قريبة من العَجَمِ وإن كانوا ينطقون ما يشبه العربية. تماما كما أصبحت أفئدتهم خواءً لا يملؤها إلا الهَوَا (بألف ممدود امتداد الأسى في نفوس الشُّرفاء من واقع مُهْتَرِئٍ).إنني لست من النُّزوعِيِّين الذين تُنازعهم شهواتهم فيظلمون أنفسهم والآخرين، ولكني أرى اللغة العربية تتآكل يوما بعد يوم أمام العرب ومن قِبَلِهِم أيضا، كما تتآكل كل قِيَمِهِم النبيلة. فلماذا تغيب اللغة العربية أو تُغَيَّبُ بمشيئة من يُفْتَرَضُ فيهم أنهم حُماتُها من التَّشَظِّي؟ هل صدق من قال: "حارسها سارِقُها" ؟
إن اختزال الأسئلة الكبرى في هذين السؤالين التبسيطيين ( وما أصعب قَبول التبسيط حين تتعود النفوس على التعقيد !)، لا يعني أن مُقاربة الإشكال أمر هَيِّنٌ، بل عسير جدا وضبط خيوطه المُتماهية يكاد يكون مُحالا. ولذلك أسباب نختزلها، للتيسير، في طبيعة الشخصية العربية المعقدة جدا التي يحملها الإنسان العربي والتي لا تسمح له حتى بمعرفة ماذا يريد في كثير من الأحيان. وقد لا يُلام على هذا الجهل الآسر لرغباته إذا ما أدركنا أنه نِتاج خالص لتراكمات فكرية وعَقَدِية تحولت من قِيَمٍ سامية مميِّزة للشخصية العربية إلى قِيم مُدانة من قِبل الآخر، بل وَمُبَرَّءٌ منها من قِبل العربي نفسه، ليعيش انفصاما حادا وتمزقا قاتلا يتضاعف عند المغاربة بشكل مخيف إلا من بعض البَوارِق التي (تمثل وعيا فرديا لا غير) تظهر هنا وهنالك ليس بوسعها فعل أي شيء أمام سلطة الظلام المكينة.
2- اللغة العربية وأثر السيرورة التاريخية عليها
إن ما بين صفاء اللغة العربية وضبابيتها زمن بعيد تلاحقت عبره مجموعة من الأحداث جعلتها كما نرى الآن. فمن الانفتاح على ثقافات الأمم الأخرى كالفُرس والرومان والهنود نتيجة الفتوحات الإسلامية وامتزاج الدم العربي بالمَوالي، إلى عصور الانحطاط والتقهقر (وبأخف تعبير: نهاية العصر الوسيط) التي كانت بداية لأسوءِ ما يمكن أن يصيب اللغة رغم المحاولات المتكررة، إن في شكل فردي أو عبر مدارس ومذاهب لاستعادة مجد هذه اللغة الآفِل، ثم السعي إلى تطويرها.
فكان عصر النهضة محاولة جريئة لإعادة بناء اللغة واسْتيحائها من منابعها الصافية مع الكلاسيكسة الجديدة التي فتحت أمام حركات التطوير والتجديد الباب واسعا لإكمال مشروع البعث والإحياء. غير أنه أُجْهِزَ عليه لانكماش المشروع الحضاري العربي بِرُمَّتِهِ جراء الانتكاسات المتلاحقة التي كان آخرها استسلامه لسلطة العثمانيين ثم الاستعمار الأوربي الذي عَمَّقَ الجراح. فلا ندري كم زمنٍ تحتاج عملية المُعالجة؟ ! كل ما نعلمه علم اليقين أن ردة فعل العرب بطيييييييئة، قريبة جدا من المنعدمة.
حل الاستعمار إذن فاجْتُثَّتِ الأصول وتأصَّلت الفروع وذاب الضعيف في القوي فَسَهُلَ التَّغْرِيبُ وتَيَسَّرَت عملية التَّباعُدِ بين الإنسان العربي وقِيَمِهِ المادية والمعنوية الروحية، وعمل المستعمر على تكسير كل القواعد، وقطع الأواصر الواصلة بين العربي وأشد علاقاته حميميةً.
إن ما يهمنا من هذا الجرد التاريخي البسيط للأحداث هو عرض العوامل التي ساهمت، بشكل أو بآخر، في تكريس الأزمة الواقعة أصلا.
وقد يقول مُكابر، وما أكثر المُكابرين في زمن الإفلاس، إن العرب لم يكونوا لسانا واحدا، بل لهجات مختلفة قاد الاختلاف بينها إلى القتل أحيانا ( مشهورة حادثة قتل الأسير نتيجة اختلاف معنى كلمة أَدْفِئْهُ التي تعني الدفء وتعني القتل أيضا، ولسوء حظه فحارس السجن مِمَّنْ تُرادف عندهم كلمة الدفء معنى كلمة القتل، فَقُتِلَ ).
نعم إن طَيِّءْ وتميم وعَبْس وأَسَد وذُبيان وهَوازن وهُذيل ... كلهم تداولوا لهجات مختلفة، لكنها لغات فصيحة وليست دَوارِجَ معطوبة هي إلى العجم أقرب، وما الاختلاف بين هؤلاء مُحَدِّدٌ لشكل اللغة أو مضمونها، وإنما هو بدائلُ اختيارية وجدتْ تَوَحُّدها الكبير في لغة قريش التي كانت مقياسا من مقاييس جودة الشعر دون أن تُلغي أو تُقَلِّلَ من شأن الاختلاف. بل إن القرآن الكريم نفسه احترم هذه اللهجات اللغات بالرغم من أنه نزل على لسان قريش. وما اختلاف القراءات إلا وجها من أوجه هذا الاحترام. فهل هناك ما هو أسمى من القرآن؟ !
فالاختلاف إذن لا يعني طَمْسَ معالم الوحدة والإجهاز على عناصر التَّوَحُّدِ كما هو الآن، وإنما هو مَسارِب ضرورية لإعطاء اللغة حيويتها.
3- اللغة العربية والمحيط اللغوي
لا شك أن الحديث هنا يُخْتزل في علاقة اللغة العربية بالفرنسية باعتبارها لغة ذات سلطة ونفوذ في المجتمع المغربي، دون أن نغفل الإسبانية والإنجليزية، التي أصبحت بِقُدْرَةِ قادر لغة عالمية، إضافة إلى الأمازيغية كلغة مغربية أصيلة عرف النقاش حول علاقتها بالعربية مستويات وصلت حد الهجوم والدفاع عن هذه العلاقة من قبل العرب ومن قبل الأمازيغيين أنفسهم.
إن مُسَوِّغَ الحديث في علاقة اللغة العربية باللغات الأخرى هو العلاقة التاريخية القديمة التي جمعتها بكل اللغات. والنظر في هذه العلاقة يفرض علينا النظر في أمرين: أولهما مدى إحساس أبناء الأمة العربية بقيمة لغتهم وثانيهما النظر إلى موقع العرب حاليا على الساحة الدولية. وللأسف الشديد فالانطلاق من هذين العنصرين يوصل إلى نتيجة مؤلمة تعاكس رغبة في أنفسنا تود إعلاء شأن اللغة. فإحساس العرب بلغتهم إحساس سلبي ( مع الاستثناءات طبعا) تشوبه عدة معتقدات تكرس واقع الاضمحلال بعد هيمنة الغزو الأوربي وفرض لغته. الأمر الذي وَلَّدَ في الأنْفُس شعورا بالتَّدَنِّي والنقص، بدا لأصحاب هذه النفوس أنَّ تجاوزَ هذه المشاعر لن يكون إلا بالانتساب إلى الغرب ولو بالحذلقة لأن هؤلاء يرفضوننا حتى ونحن نتذلل لهم.
وليس العيب، من حيث المبدأ، أن نفقه لغة هؤلاء، ونعقل خصائصها جيدا.،فهذا مطلب لا يجوز للعربي إعفاء نفسه منه، ولكن بعد أن يفهم لغته الأصل أولا، كما كان يفعل العرب في علاقاتهم مع الأقوام المتاخمة لهم، لا كما نفعل نحن اليوم.
إنه لأمر غريب حقا أن نرى هذا الإقبال المتزايد على اللغات الأجنبية في مقابل هذا الإهمال الشديد للغة العربية التي لم تشفع لها دساتير الدول العربية بكونها اللغة الرسمية، ولا مخاطبة الملوك والرؤساء شعوبهم بها في المناسبات المُفْرِحة والمُحزِنة، ولا كونها لغة الدين الرسمي الذي لا يختلف حاله عن حالها.
والأغرب أن بُسطاء الناس وَوُجَهاءَهُم فَرحون بهذا الإقبال، مُنشرحون لِتَغَذِّيهِم على فُتات اللغات الأخرى. وتراهم يبذلون الغالي والنفيس لتعليم أبنائهم الفرنسية أو الإنجليزية. ها قد تعلموها وأتقنوها، فماذا بعد؟؟؟؟؟ !!!!!!
4- اللغة العربية والمؤسسات التعليمية
لأن الأعمال بِخَواتِمِها سنبدأ في هذا المحور من حيث انتهاء المؤسسات التعليمية إلى النتائج المُسَطَّرة من قبل المسؤولين . وبدون مزايدات فالنتيجة معروفة لدى الدَّانِي والقاصِي، فلا دولة عربية تحتل مرتبة متوسطة، في أحسن الأحوال، على مستوى البحث العلمي، بل إن جامعاتها التي تحتضن شُعَبا ومسالِكَ للدراسات العربية "لغة وأدبا" تُخَرِّجُ أفواجا من الجَهَلَةِ بأبسط أدبيات اللغة وما يحيط بها من معارف، إلا مَنْ بَذَلَ جهدا خاصا مَكَّنَهُ من امتلاك ما يحفظ به ماء الوجه، وإن أصبح تَدَنِّي المستوى لا يطرح مُشكلا في بلاد لا تهتم للعلم والمعرفة، قدر اهتمامها بتجميع الأموال وتبديدها هنا وهناك وهنالك لإرضاء شهوات دنيئة تضر صاحبها ومن يحيط به، وتُضيع حقوق الأمة في الرقي. ولا مجال للتفصيل فالقضية أوضح من الشمس في اليوم الربيعي.
لقد مر أكثر من نصف قرن على تمتع المغرب، ومعه جُلُّ الدول العربية، على التمتع بالاستقلال، وطوال هذه المدة كان التوجه نحو خلق مؤسسات تعليمية عمومية الهدف منها خلق أُطُرٍ وطنية ذات كفاءات وتكوين ثقافي عربي أصيل بعد التغلب على الأمية والجهل اللَّذَيْنِ لا زالا مهيمنين، فأمة "إقرأ" تحتل المرتبة الأولى في الأمية بين دول العالم .والغريب أن التعليم الخاص في مرحلة الاستعمار وبُعَيْدَهُ أثمر رجالا جَهابِذَةً في اللغة وعلومها، بينما أنتج التعليم العمومي شعب "حَيْصَ بَيْص".
ومن غريبٍ أن هذا التوجه لم يحقق أبسط الأهداف المرجوة منه، على الرغم من المجهودات الجبارة التي بُذِلَتْ والتي لا يمكن للمُنْصِفِ إنكارها، فهل من سبيل إلى تَلَمُّسِ الأسباب الكامنة وراء هذا الإخفاق؟
بحجم المأساة تكون الأسباب ، ومأساتنا لا يلوح في الأفق القريب، على الأقل، بريق التخلص منها نتيجة لتضافر عوامل عدة نذكر منها:
أ - لم تكن هناك إرادة سياسية في حجم الشعارات المرفوعة لتطوير المدرسة والاهتمام بالبحث العلمي. ولا يبدو أنها موجودة أو ستكون في المستقبل. وكم هو عجيب حرف "السين" الذي يفتح للمسؤولين آفاقا رحبة لتخدير الناس بالوهم المطلق . ســ نفكر ســـ ننظر في الأمر ســ نجتمع ســ نفعل ســـ نعيد النظر فيما لم نفعل... وتضيع القضية.
ب - نتيجة لجلالة حرف السين تغلغل اليأس في نفوس المُشْرفين المباشرين على العملية التعليمية (معلمين وأساتذة)، فانشغلوا بأوضاعهم الاجتماعية أكثر من انشغالهم بالبحث العلمي الذي انتذبوا أنفسهم (وبعابرة أدق انْتُذِبُوا) لأجله، أي أنهم فشلوا في تحقيق الاستثناء في سياق الأزمة التي يمر به المغرب وكل العرب على كافة المستويات الحيوية. فكثيرا ما تحول هؤلاء إلى مُقاولين أو تجارا لسد الرمق أو الاغتناء، والمصيبة واحدة في الحالتين معا.
ت - مقاربة العملية التعليمية بحسابات مادية لا تلتفت إلى طبيعة تكوين رجال التعليم ومستواهم الثقافي، فكان الجفاف المعرفي أحد أبسط المظاهر الخطيرة التي يعانيها هؤلاء، وهو أمر غير مهم في نظر من تَسَنَّمُوا كراسي الخزينة والمالكين لمفاتيحها ما دام هؤلاء المُدَرِّسين لا يُكَلِّفون مالا تطيق رغبة المُتَسَنِّمِين. فلا بأس إذن من " التَّسْلاك" إلى حين" ولا يهم أن يتسرب إلى التعليم من لا يقوى على تركيب جملتين صحيحتين متجانستين ، فَيُعَوِّضُ ذلك بِسَفْسَافِ اللهجة، حتى أن التلميذ أو الطالب لا يدري أَجالِسٌ في المقهى أم في مؤسسة تعليمية؟
ث - استئناس رجال التعليم بهذا الوضع ورفضهم لكل محاولة جادة للرفع من مستواهم رابطين ذلك بضبابية المستقبل، وباليأس الذي يلاحقهم كما لاحق إخوانهم أو معارفهم، ليبقى الخيط الرابط بين التلميذ/ الطالب والأستاذ هو اليأس المتمكن من الجميع. وبقدر ما هو مُحِقٌّ هذا الربط، بقدر ما هو قريب من الحق الذي يُراد به الباطل، بقدر ما هو مُريح ومُعْفٍ لرجال الدولة من مواجهة جيل عالِم كَثِيرِ الإحراج لهم. فيكفي هذه البلاد أو تلك أن يكون "العلم" أو بالأحرى المناصب الرفيعة بشواهد، مشكوك فيها، من نصيب كُنْيَاتٍ "عريقة"، وكأن هذه البلدان قُدِّرَ لها أن تتوارثها عائلات فُلان وعِلاَّن...
ج - اعتماد الانتقائية في المقررات التي تقصي الأدب القديم وعلوم القرآن والحديث، علما أن أصل اللغة والأدب الرفيع يَكْمُن ها هنا، وذلك بدعوى الحداثة أولا، ومحاربة التطرف وبعبارة أكثر مباشرة الإرهاب كما رسمه الأسياد "لساداتنا" ثانيا.
ح - إخضاع التعليم لكثير من المراجعات في كل المستويات، ذات الطابع الترقيعي حتى صار دربلة. بالموازاة مع النزعة التجريبية التي أصبحت أصلا في العملية التعليمية.
خ - المفارقة العجيبة التي يحسها التلميذ بين ما يُصِرُّ عليه الأساتذة من ضرورة التكلم بلغة عربية فصيحة، وبين ما يراه في الشارع ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة... .
د - إن المؤسسات التعليم بانفتاحها على المحيط أصبحت ملتقى لكل ما هو رديء ومُبْتَذَلٍ، تغزوها كل السلوكات والأفكار السيئة، ولا ُتْنِتجُ، وليس في استطاعتها ذلك، أي معرفة مقاوِمة لهذا الاجتياح.
ذ - إن أحقر بناية حكومية هي المدرسة بكل مستوياتها، (لا تتميز عن كثير من البنايات الحكومية الأخرى ،خصوصا المستشفيات، إلا بالكثير من التهميش)، أما محتوياتها فتثير القَرَفَ. إذا لم تكن منعدمة. وفي زمن المظاهر فكل متسخ ومهدم وفقير يُسْتَهْزَءُ به استهزاء لا مثيل له.
ر - أَصَّلَ هذا الوضع في نفسية المدرس والإداري والمسؤول ... نَوازع دنيئة أَخَفُّها الغش واستغلال الفُرَصِ للتهاون...
ز – تَسَرُّب اليأس إلى المتعلمين وهم يَرَوْنَ جَحافلُ المعطلين " أصحاب الشهادات العليا من إخوانهم أو أصدقائهم أو أقربائهم أو جيرانهم..." تجوب الشوارع إما بائعةً متجولة أو مُطارَدَةً من قبل هَرَاوات المخزن بأمر مِمَّنْ وَقَّفُوا الكراسي عليهم بضربة حظ أو بالوراثة...
5- اللغة العربية ووسائل الإعلام
لا بد لمقدمات بالسوء الذي أتينا على ذكره من نتائج كارثية، وهذه النتائج كامنة هاهنا حيث وسائل الإعلام التي من المُفْتَرَضِ أن تُسَوِّقَ لغة راقية وتساهم بفعالية في نشر الوعي بقيمة اللغة تنظيرا وممارسة، تُكَرِّسُ واقع الاضمحلال والابتذال المَعيب لأمة الضاد. فالتلفزَةُ دارجَةٌ وقنوات الإذاعات دارجة من أرخص بضائع السوق يشترك فيها الزنادقة والمتسكعين والسفهاء... بِمُبارَكَةٍ من الجهات الوصية. أي انحطاط نعيشه؟ أي غيبوبة فكرية نحياها؟ أي انحلال بعد هذا الذي وَطَّنَتْهُ هذه القنوات في نفوس الناس الممتلئة بالأهواء، وفي الأفئدة الخَواء؟
لقد ساهمت هذه الوسائل في نشر الأخطاء الفادحة لغويا ونحويا ومعرفيا من خلال إصرارها على ترديد بعض المفاهيم أو الألفاظ دون وعي بمعناها الحقيقي، حتى أنها قد تؤدي معنى مخالفا للمراد إذا لم يكن مناقضا له، وأنا هنا أقصد الذين يحاولون الالتزام بخط اللغة أما وسائل الإعلام الدَّارِجَة المنحطة فتلك قصة أخرى. فلننظر إلى قولهم: دانت الدول العربية سلوك إسرائيل...فالمقصود أن هذه الدول أدانت (من الإدانة، وهو فعل رباعي يفيد الشجب والاستنكار " وهو أقصى ما يستطيع العرب فعله")، أما " دانت" فمن الفعل الثلاثي "دانَ، أي اعتنق دينا والتزم به". والواقع أن هذا الخلط والتناقض يعبر، من الناحية السياسية، عن تناغم تام بين الخطأ اللغوي والموقف العربي. أليس العرب يدينون الآن بدين إسرائيل؟. لآ أقصد اليهودية طبعا وإنما التوجه السياسي. ولننظر إلى قولهم: لم يَفْلَحِ اللاعب أو لم تَفْلَح المجهودات... وهم يقصدون النجاح، والحقيقة أن هذا الفعل الثلاثي يعني شق الأرض لفلاحتها. والأصح الفعل الرباعي أَفْلَحَ يُفْلِحُ. إن استشراء المصائب يجعل الاستمرار في جلب الأمثلة عقيما ولذلك نكتفي بالإشارة فهي أوضح من كل تفصيل.
6- رهان
على من وماذا راهن مُنَظِّرُو السياسة اللغوية في المغرب والبلاد العربية؟ وعلى من تراهن العربية لاستعادة وَهَجِهَا؟
بالاختصار المفيد فرهان كل منهما خاسر، فقد راهن المنظرون على اللغات الأخرى للتطور، وراهنوا على الغربيين وبرامجهم لتطوير العربية فزادنا هذا الرهان تخلفا، وزاد اللغة تدهورا . نعم كلنا نتواصل بالفرنسية ونَتَشَدَّقُ ببعض اللغات الأخرى بل نفتخر بذلك .. وماذا بعد؟ اللغة الفرنسية والإنجليزية لغة العلم ونحن نتقنهما ربما أفضل من أناسهما فهل أدركنا العلم ومارسناه في حياتنا الخاصة والعامة؟ هل أنتجنا ما يشفع لِلَوْكِنَا هذه اللغات واجْترارنا لألفاظها كما تَجْتَرُّ البهائم ما جمعت من أعشاب دون تمييز ؟ !.
أما رهان اللغة على أناسها فأكثر خُسْرانا، لأن هؤلاء مُسْتَلَبو الإرادة، ضعفاء الشخصية، مَقْهورو النفوس، شَهْوانِيو الأهواء... فُرادى وجماعات. فالفرد أسير ذاتيته أناني إلى الحد الأقصى انتهازي النُّزوع لا اعتبار للقيمة الجماعية عنده ( واللغة والدين أرقاها)، والمؤسسة الحكومية وغير الحكومية خاملة غير مجتهدة، مستكينة لعرف استعماري تجذر ليصبح أصلا بتواطئ مفضوح لهؤلاء .وبلغة أكثر مباشرة وتقريرية هل تفهم معنى دستور يقر بما لا يحتمل التأويل أن لغة البلاد الرسمية هي اللغة العربية ويخاطب أباؤها ، وأكثرهم "أميين" بلغة فرنسية من خلال وثائقهم ومراسلاتهم، حتى إن المطالبة بتعريب وثيقة ما يتطلب التَّوَهان في دهاليز المحاكم إذا.ما امتلك أحدهم الشجاعة لخوض هذه الحرب، وإذا وُجِدَ من يدعمه.
إن الذين يَلْوُون ألسنتهم بقولهم إن اللغة العربية ليست لغة علم لا يفقهون شيئا، بل عميت أبصارهم وأفئدتهم، ويجهلون تاريخ أمتهم. والذين يسلقون كل معتز وغيور على أسمى قيمه بالرجعي المتخلف الظلامي...، لا يعلمون أن مُكتشف الدورة الدموية عربي قديم. ولا يعلمون أن من أجرى أول عملية على الرأس عربي قديم. ولا يعلمون أن واضع أُسُسِ الجبر والحساب عربي قديم.. ولا يعلمون أن هذه الإنجازات التي لا تُذْكَرُ للعرب جهلا أو حسدا وإنكارا كانت باللغة العربية. كل ما يعلمن هو التملق للغرب
إن التاريخ البشري أثبت بما لا يدع مجالا للشك أو المُزايدات المجانية أن مسألة التقدم لا تُدْرَكُ بالمراهنة على لغة الآخرين، وإنما على علمهم بِلُغَتِنَا، وعلى عِلمنا بلغتنا ولغتهم. فهل تطور الفرنسيون والإنجليزيون باعتماد العربية؟ ! وهل تطورت الصين الآن وأصبحت قوة اقتصادية وسياسية عظمى تُوَجِّهُ العالم بغير اللغة الصينية؟ ! وما أَمْرُ إيران ببعيد علينا ! فهل مِن مُذَّكِرٍ؟؟؟
لله الأمر من قبل ومن بعد.
- منتديات أساتذة اللغة العربية -
abo alyatama- عضو جديد
- عدد المساهمات : 22
نقاط : 4724
تاريخ التسجيل : 14/02/2012
رد: أزمة لغة أم أزمة إنسان؟
سلام الله عليك
شكراً على المداخلة القيمة والهادفة، والتي تحمل غيرة واجبة من كل عربي على لغته العربية...
مداخلة قيمة...
إني وبكل أسف أراها أزمة إنسان...
شكراً على المداخلة القيمة والهادفة، والتي تحمل غيرة واجبة من كل عربي على لغته العربية...
مداخلة قيمة...
إني وبكل أسف أراها أزمة إنسان...
أسير القافية- عضو ممتاز
- عدد المساهمات : 496
نقاط : 5707
تاريخ التسجيل : 19/01/2011
الموقع : وكن رجـــلاً إن أتــو بعـــــده ** يقــــولـــون مرّ وهــــذا الأثــــر
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأربعاء 20 ديسمبر 2023, 10:55 من طرف مدير المنتدى
» العدد الثالث من مجلة " آفاق علمية "
الأحد 01 أغسطس 2021, 10:21 من طرف Houcine22
» الشاعر منتميا وملتزما
الأحد 14 أكتوبر 2018, 20:12 من طرف مدير المنتدى
» العرب وكرة القدم
الإثنين 02 يوليو 2018, 20:10 من طرف مدير المنتدى
» الخامس من يوليو (جويلية) مجددا
الإثنين 02 يوليو 2018, 19:42 من طرف مدير المنتدى
» أهلا بشهر التوبة والغفران
الأربعاء 07 يونيو 2017, 11:21 من طرف أسير القافية
» لو عثرت بغلة في العراق ...
الجمعة 03 مارس 2017, 20:17 من طرف أسير القافية
» مسابقة الدخول إلى مدرسة الدكتوراه بتامنغست
الخميس 06 أكتوبر 2016, 16:21 من طرف أسير القافية
» وما بكم من نعمة فمن الله
الخميس 06 أكتوبر 2016, 15:58 من طرف أسير القافية