المواضيع الأخيرة
بحـث
سحابة الكلمات الدلالية
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
مدير المنتدى | ||||
أسير القافية | ||||
ونشريس | ||||
محب العلماء | ||||
هويدا | ||||
حمداوي عبد الرحمان بن قاس | ||||
شوقي نذير | ||||
الأصيل | ||||
تحيا الجزائر | ||||
عبدالله بن حامو |
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 15 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 15 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحثلا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 53 بتاريخ الأحد 14 أبريل 2019, 17:47
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 1352 عُضو.آخر عُضو مُسجل هو روفي فمرحباً به.
أعضاؤنا قدموا 3419 مساهمة في هذا المنتدى في 1524 موضوع
علي الطنطاوي الأديب الساحر...(مقال بديع للدكتور عائض القرني)
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
علي الطنطاوي الأديب الساحر...(مقال بديع للدكتور عائض القرني)
د. عائض القرني
بطل السيرة وأستاذ المسيرة فهو علي
الطنطاوي فحسب، وإذا قلت: علي الطنطاوي حضرت دائرة المعارف، وموسوعة الأدب،
وجامعة الفنون، فصرت معه في عالم من المنقول والمعقول، والقديم والحديث،
والعلم والأدب، والنثر والشعر، تقرؤه فإذا الآية والحديث، والقصة والمثل،
والبيت والحكاية، والنكتة والخاطرة، يضحكك ويبكيك، يطريك ويشجيك، يفرحك
ويحزنك، فأنت معه بين بسمة ودمعة، ووصل وهجر، وسِلْم وحرب، يحدِّثك عن
الأنبياء والعلماء....[/b]
والحكماء
والشعراء، والملوك والسوقة، والأغنياء والفقراء، والرجال والنساء،
والملائكة والشياطين، يقص عليك أخبار مالك والشافعي، وابن تيمية وابن حزم،
وابن سيناء، وابن رشد، والفارابي وابن خلدون، والمتنبي وأبي تمام، وفولتير
وسارتر، وديكارت وكانت، وشكسبير تولستوي، وإقبال وطاغور، يرتحل بك من برج
إيفل إلى تاج محل، ومن هضبة التبت إلى مقاصير الحمراء، ومن ضفاف دجلة إلى
روافد الراين، يتحفك بتاريخ العرب ودهاء العجم، وصبر الأتراك، وصمود
الأكراد، وسخرية الفرنسيين، وبرود الإنجليز، يجمع لك في مجلس واحد عد نور
الدين، وشجاعة صلاح الدين، وهمة نابليون، وأبهة الناصر في الزهراء، وحنكة
معاوية في دمشق، وملك هارون ببغداد، يهدأ فإذا هو رخاء حيث أصاب، ويزبد
ويرعد، فإذا هو قاصف من الريح، وعات من الموج، تعيش معه وعظ الحسن البصري،
وزهد الثوري، وبديهة إياس، وموسوعية الشعبي، وسخرية برناردشو، وجاذبية
غوته، وتصوير هيجو، ينقلك بقوة براعته، وأسر إبداعه، من عالمك الصغير إلى
عالمه الكبير، ومن أفقك الضيِّق إلى أفقه الواسع، ومهما حاولت أن تتماسك
أمام أسره وسحره فهيهات سوف تستسلم لسلطان بيانه، وتعلن الطاعة لنور
برهانه؛ لأن حديثه يكاد يضيء من بريق نوره ولم لم تمسسه نار ذاكرته، وسوف
تعترف بتميُّزه وعمقه وموسوعيته وأصالته.
لم
أقرأ لأديب ولا لكاتب معاصر أعذب عبارة، وألطف إشارة، وأحسن لفظاً، وأعظم
أسراً، وأبرع كتابةً، وأجمل أسلوباً من علي الطنطاوي، لكأن مقالته صبح
تنفس، أو روض أخضر باكرته صبا باردة، أو جنة بربوة أصابها وابل.
قرأت
كل كتبه وأعدت الكثير منها، وحفظتُ قطعاً جميلة، وتحفاً غالية منها، وخطبت
ببعض إشراقاته، فسالت من سماعها الدموع، ووجلت من بلاغتها القلوب، استفدت
من كتبه جلال الحق، وإشراق النفس، وسمو الروح، وحلاوة الجملة، وطلاوة
الحرف، قطفت من روضه أينع الثمار، وألذ الطلع، فحديقة علمه صنوانٍ وغير
صنوان تُسقى بماء واحد، وبستان أدبه فيه من كل زوج بهيج؛ تفسيراً وحديثاً
وأدباً وثقافة، وفي رحاب فنونه حدائق ذات بهجة مما يهيج ويبهر؛ لأنه يغرب
ويطرب ويعجب، والمعاصرون من الأدباء طرائق جدد، ومذاهب شتى، منهم عميق
الفكر راسخ المعلومة، لكنه قلق العبارة، شاق الطريق، فاتر الأداء، ومنهم
البارع في عرضه، الجميل في لفظه، لكن بضاعته مزجاة، وعيبته فارغة، وكفه
صفر، ومنهم خالي الوفاض من المعنى، على جرف هار في المبنى، (حشفاً وسوء
كيلة)، أما الشيخ علي الطنطاوي فهو ثرُّ المعرفة، واسع العلم، راسخ الفهم،
عميق الفكر، وهو مع ذلك صاحب أبرع مقالة تتصدّر الكتاب العربي، والمجلة
السائرة، والصحيفة اليومية، سهولةً في أصالة، ويسراً في رصانة، وعذوبةً في
عمق:
حُلَلٌ من السحر الجميل وموكبٌ من روعة الإيحاءِ والإغـراءِ
إذا
أصّل لنا نسينا ابن سينا، وإذا نظّر سقطت أسهم سقراط، له تفنن الجوزي،
وعبقرية ابن حزم، وتبيان الجاحظ، وسلاسة ابن حيان؛ لأنه جرد الأسفار، وطاف
الديار، وطوى منشور الزمان، ونشر مطوي المكان، فهو جامع لأحداث العصر،
وأنباء كل مصر، إن أحبَّ أطنب وأسهب، وإن شاء أوجز وألغز، مع جودة خاطر
ماطر، وصحة نفَس عاطر، ولا غرابة فهو خليفة مجدد الأدب، وإمام الكتاب مصطفى
صادق الرافعي.
والشيخ
علي الطنطاوي لا يتركك تقرأ له بقلب خامد، وطرف جامد، وحس هامد، بل يبعث
في نفسك شعورا حيا، فيهزُّ عاطفتك، ويلهب حماسك، ويوقظ روحك هذا إذا كان
القارئ له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أما إذا كان ميّت الشعور، يابس
الإحساس، مقفر المعرفة، فهذا لا كلام معه: (أموات غير أحياء وما يشعرون
أيّان يبعثون).
ما في الخيـام أخو وجد نطارحه حديث نجد ولا خلٌّ نجاريـهِ
لقد
عرفت الطنطاوي قبل ثلاثين سنة تأبطت كتبه في جبال الجنوب، وتصفّحت مقالاته
في روابي نجد، وطالعت ذكرياته في مغاني الحجاز، استقبلتني كتبه في دمشق،
وهزّتني مقالاته في القاهرة، ولقيت قصصه في باريس، وسمعت أخباره في قرطبة،
وهو مصري المحتد، دمشقي المولد، حجازي الهوى، نجدي الجوى، صوته في المذياع،
وصورته في الشاشة، وأدبه في الصحيفة، وإشراقه في الكتاب، سافرت وكتبه معي،
ونمتُ ورسائله على مخدتي، وكنت مرة في الطائرة إلى جاكرتا، وبين يدي
كتابه: (رجال من التاريخ) فأبكاني وأشجاني، وأتيت أرتجل خطبة في جمع بعدما
حفظت مقطوعة: (نحن المسلمون) من أول (قصص من التاريخ)، فسمعت نشيج الحضور،
بيني وبين الطنطاوي غير نسب الدين العظيم، والمعتقد الحق صفات متقاربة
متجاذبة مع اعترافي بفضله وتقدمه وسابقيته، فقد حبَّبني في الأدب شعراً
ونثراً، على نزعة فطرية سابقة، وولع قديم وحنين دائم، (فالتقى الماء على
أمر قد قُدر).
وما شرقي بالماء إلاّ تذكـراً لماء به أهل الحبيب نـزولُ
وشجّعني
على الموسوعيّة وتعدد الفنون والضرب في كل غنيمة بسهم وهبوط وِدْيان
المعرفة، وشحذ ما عندي من طبع دعوب، ومزاح متأصل، ونكتة منكوتة في الدم
جعلتني أعجب بطرائفه ولطائفه، وأضحك معه وأحفظ كما يحفظ مما تخف له الروح،
ويهش له الخاطر، ولله هو؛ مواهب متعددة، وروح متجددة، نهج حنيفي، ومذهبي
حنفي، وخلق أحنفي، يكاد سنا برق لموعه يذهب بأبصار حساده.
وحرصتُ
على لقاء الشيخ الطنطاوي وتمنّيتُ ذلك، وقبل أن ألقاه بأشهر كنت ألقي درس
السبت بأبها في جمع من الناس، فوصلتني إشاعة موته، وصدّق ذلك بعضُ الأصدقاء
وقوّوها عندي فأخبرت الناس بموته وهو حي يُرزق، وترحَّمتُ عليه وغسَّلته
وكفَّنته وصلَّيْتُ عليه ودفنته وبكيتُ.. فلما انتهى الدرس ثبت أن الشيخ
علي لم يمت، وأنه لا يزال مصرّا على الحياة على رغم أنوفنا!! ولو كانت
تنطلي عليه الحيلة لصدَّقنا ومات، فصار بكاؤنا عليه هباءً منثورا. وزرته
بمكة في بيته بالعزيزية، وعرّفه صاحبه بي، وقد سمع ببعض أشرطتي واستشهادي
بكلامه، فهشَّ وبشَّّ، وحيَّا ورحَّب، وقال لي: أنت الذي أماتني قبل أن
أموت؟! ثم استشهد ببيت المتنبي:
يا كم دفنتُ وياكم متُ عندكم ثم انتفضتُ فزال القبرُ والكفنُ
ومازحني
وداعبني ثم حدثنا بشيء من ذكرياته المشجية، فبكى مرتين وهو يقص علينا أحسن
قصصه، بكى حينما تذكر زميله وصديقه الكاتب اللامع والداعية الصادق سيد قطب
-رحمه الله- وقال والدمع يغسل خدَّه: كان خيراً مني وأفضل مني وأنفع مني
ثم تنهَّد وترحَّم عليه.
ثم
بكى لما ذكر ابنته بنان ?رحمها الله- التي قُتلت بألمانيا، فجادت عيناه
بأحر وأصدق الدموع على فلذة كبده، وصنو روحه، فكان دمعه أصدق خطبة قرأتها،
وأعظم موعظة سمعتها، حرّم الله تلك العيون على النار، وآنس الله تلك الجفون
بصحبة الأبرار.
وكل
ما ذكرته عن الشيخ علي الطنطاوي عظيم ويستحق عليه التكريم، لكن أعظم من
سعة علمه وكثرة فنونه ودائرة معارفه أنه قد رضي بالله ربّاً وبالإسلام
ديناً، وبمحمد نبيّل، وهنا عظمة الإنسان، وغاية نبله، وذروة كماله البشري،
حيث يبارك في علمه، ويصلح عمله، ويرتفع ذكره، ويستقيم منهجه، وتطيب كلماته،
وتعذب عبارته، ويحلو أدبه، وهذا بعينه الذي حببنا في شيخ الجيل، وأستاذ
الأدب، وكاتب العصر، علي الطنطاوي.
بطل السيرة وأستاذ المسيرة فهو علي
الطنطاوي فحسب، وإذا قلت: علي الطنطاوي حضرت دائرة المعارف، وموسوعة الأدب،
وجامعة الفنون، فصرت معه في عالم من المنقول والمعقول، والقديم والحديث،
والعلم والأدب، والنثر والشعر، تقرؤه فإذا الآية والحديث، والقصة والمثل،
والبيت والحكاية، والنكتة والخاطرة، يضحكك ويبكيك، يطريك ويشجيك، يفرحك
ويحزنك، فأنت معه بين بسمة ودمعة، ووصل وهجر، وسِلْم وحرب، يحدِّثك عن
الأنبياء والعلماء....[/b]
والحكماء
والشعراء، والملوك والسوقة، والأغنياء والفقراء، والرجال والنساء،
والملائكة والشياطين، يقص عليك أخبار مالك والشافعي، وابن تيمية وابن حزم،
وابن سيناء، وابن رشد، والفارابي وابن خلدون، والمتنبي وأبي تمام، وفولتير
وسارتر، وديكارت وكانت، وشكسبير تولستوي، وإقبال وطاغور، يرتحل بك من برج
إيفل إلى تاج محل، ومن هضبة التبت إلى مقاصير الحمراء، ومن ضفاف دجلة إلى
روافد الراين، يتحفك بتاريخ العرب ودهاء العجم، وصبر الأتراك، وصمود
الأكراد، وسخرية الفرنسيين، وبرود الإنجليز، يجمع لك في مجلس واحد عد نور
الدين، وشجاعة صلاح الدين، وهمة نابليون، وأبهة الناصر في الزهراء، وحنكة
معاوية في دمشق، وملك هارون ببغداد، يهدأ فإذا هو رخاء حيث أصاب، ويزبد
ويرعد، فإذا هو قاصف من الريح، وعات من الموج، تعيش معه وعظ الحسن البصري،
وزهد الثوري، وبديهة إياس، وموسوعية الشعبي، وسخرية برناردشو، وجاذبية
غوته، وتصوير هيجو، ينقلك بقوة براعته، وأسر إبداعه، من عالمك الصغير إلى
عالمه الكبير، ومن أفقك الضيِّق إلى أفقه الواسع، ومهما حاولت أن تتماسك
أمام أسره وسحره فهيهات سوف تستسلم لسلطان بيانه، وتعلن الطاعة لنور
برهانه؛ لأن حديثه يكاد يضيء من بريق نوره ولم لم تمسسه نار ذاكرته، وسوف
تعترف بتميُّزه وعمقه وموسوعيته وأصالته.
لم
أقرأ لأديب ولا لكاتب معاصر أعذب عبارة، وألطف إشارة، وأحسن لفظاً، وأعظم
أسراً، وأبرع كتابةً، وأجمل أسلوباً من علي الطنطاوي، لكأن مقالته صبح
تنفس، أو روض أخضر باكرته صبا باردة، أو جنة بربوة أصابها وابل.
قرأت
كل كتبه وأعدت الكثير منها، وحفظتُ قطعاً جميلة، وتحفاً غالية منها، وخطبت
ببعض إشراقاته، فسالت من سماعها الدموع، ووجلت من بلاغتها القلوب، استفدت
من كتبه جلال الحق، وإشراق النفس، وسمو الروح، وحلاوة الجملة، وطلاوة
الحرف، قطفت من روضه أينع الثمار، وألذ الطلع، فحديقة علمه صنوانٍ وغير
صنوان تُسقى بماء واحد، وبستان أدبه فيه من كل زوج بهيج؛ تفسيراً وحديثاً
وأدباً وثقافة، وفي رحاب فنونه حدائق ذات بهجة مما يهيج ويبهر؛ لأنه يغرب
ويطرب ويعجب، والمعاصرون من الأدباء طرائق جدد، ومذاهب شتى، منهم عميق
الفكر راسخ المعلومة، لكنه قلق العبارة، شاق الطريق، فاتر الأداء، ومنهم
البارع في عرضه، الجميل في لفظه، لكن بضاعته مزجاة، وعيبته فارغة، وكفه
صفر، ومنهم خالي الوفاض من المعنى، على جرف هار في المبنى، (حشفاً وسوء
كيلة)، أما الشيخ علي الطنطاوي فهو ثرُّ المعرفة، واسع العلم، راسخ الفهم،
عميق الفكر، وهو مع ذلك صاحب أبرع مقالة تتصدّر الكتاب العربي، والمجلة
السائرة، والصحيفة اليومية، سهولةً في أصالة، ويسراً في رصانة، وعذوبةً في
عمق:
حُلَلٌ من السحر الجميل وموكبٌ من روعة الإيحاءِ والإغـراءِ
إذا
أصّل لنا نسينا ابن سينا، وإذا نظّر سقطت أسهم سقراط، له تفنن الجوزي،
وعبقرية ابن حزم، وتبيان الجاحظ، وسلاسة ابن حيان؛ لأنه جرد الأسفار، وطاف
الديار، وطوى منشور الزمان، ونشر مطوي المكان، فهو جامع لأحداث العصر،
وأنباء كل مصر، إن أحبَّ أطنب وأسهب، وإن شاء أوجز وألغز، مع جودة خاطر
ماطر، وصحة نفَس عاطر، ولا غرابة فهو خليفة مجدد الأدب، وإمام الكتاب مصطفى
صادق الرافعي.
والشيخ
علي الطنطاوي لا يتركك تقرأ له بقلب خامد، وطرف جامد، وحس هامد، بل يبعث
في نفسك شعورا حيا، فيهزُّ عاطفتك، ويلهب حماسك، ويوقظ روحك هذا إذا كان
القارئ له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أما إذا كان ميّت الشعور، يابس
الإحساس، مقفر المعرفة، فهذا لا كلام معه: (أموات غير أحياء وما يشعرون
أيّان يبعثون).
ما في الخيـام أخو وجد نطارحه حديث نجد ولا خلٌّ نجاريـهِ
لقد
عرفت الطنطاوي قبل ثلاثين سنة تأبطت كتبه في جبال الجنوب، وتصفّحت مقالاته
في روابي نجد، وطالعت ذكرياته في مغاني الحجاز، استقبلتني كتبه في دمشق،
وهزّتني مقالاته في القاهرة، ولقيت قصصه في باريس، وسمعت أخباره في قرطبة،
وهو مصري المحتد، دمشقي المولد، حجازي الهوى، نجدي الجوى، صوته في المذياع،
وصورته في الشاشة، وأدبه في الصحيفة، وإشراقه في الكتاب، سافرت وكتبه معي،
ونمتُ ورسائله على مخدتي، وكنت مرة في الطائرة إلى جاكرتا، وبين يدي
كتابه: (رجال من التاريخ) فأبكاني وأشجاني، وأتيت أرتجل خطبة في جمع بعدما
حفظت مقطوعة: (نحن المسلمون) من أول (قصص من التاريخ)، فسمعت نشيج الحضور،
بيني وبين الطنطاوي غير نسب الدين العظيم، والمعتقد الحق صفات متقاربة
متجاذبة مع اعترافي بفضله وتقدمه وسابقيته، فقد حبَّبني في الأدب شعراً
ونثراً، على نزعة فطرية سابقة، وولع قديم وحنين دائم، (فالتقى الماء على
أمر قد قُدر).
وما شرقي بالماء إلاّ تذكـراً لماء به أهل الحبيب نـزولُ
وشجّعني
على الموسوعيّة وتعدد الفنون والضرب في كل غنيمة بسهم وهبوط وِدْيان
المعرفة، وشحذ ما عندي من طبع دعوب، ومزاح متأصل، ونكتة منكوتة في الدم
جعلتني أعجب بطرائفه ولطائفه، وأضحك معه وأحفظ كما يحفظ مما تخف له الروح،
ويهش له الخاطر، ولله هو؛ مواهب متعددة، وروح متجددة، نهج حنيفي، ومذهبي
حنفي، وخلق أحنفي، يكاد سنا برق لموعه يذهب بأبصار حساده.
وحرصتُ
على لقاء الشيخ الطنطاوي وتمنّيتُ ذلك، وقبل أن ألقاه بأشهر كنت ألقي درس
السبت بأبها في جمع من الناس، فوصلتني إشاعة موته، وصدّق ذلك بعضُ الأصدقاء
وقوّوها عندي فأخبرت الناس بموته وهو حي يُرزق، وترحَّمتُ عليه وغسَّلته
وكفَّنته وصلَّيْتُ عليه ودفنته وبكيتُ.. فلما انتهى الدرس ثبت أن الشيخ
علي لم يمت، وأنه لا يزال مصرّا على الحياة على رغم أنوفنا!! ولو كانت
تنطلي عليه الحيلة لصدَّقنا ومات، فصار بكاؤنا عليه هباءً منثورا. وزرته
بمكة في بيته بالعزيزية، وعرّفه صاحبه بي، وقد سمع ببعض أشرطتي واستشهادي
بكلامه، فهشَّ وبشَّّ، وحيَّا ورحَّب، وقال لي: أنت الذي أماتني قبل أن
أموت؟! ثم استشهد ببيت المتنبي:
يا كم دفنتُ وياكم متُ عندكم ثم انتفضتُ فزال القبرُ والكفنُ
ومازحني
وداعبني ثم حدثنا بشيء من ذكرياته المشجية، فبكى مرتين وهو يقص علينا أحسن
قصصه، بكى حينما تذكر زميله وصديقه الكاتب اللامع والداعية الصادق سيد قطب
-رحمه الله- وقال والدمع يغسل خدَّه: كان خيراً مني وأفضل مني وأنفع مني
ثم تنهَّد وترحَّم عليه.
ثم
بكى لما ذكر ابنته بنان ?رحمها الله- التي قُتلت بألمانيا، فجادت عيناه
بأحر وأصدق الدموع على فلذة كبده، وصنو روحه، فكان دمعه أصدق خطبة قرأتها،
وأعظم موعظة سمعتها، حرّم الله تلك العيون على النار، وآنس الله تلك الجفون
بصحبة الأبرار.
وكل
ما ذكرته عن الشيخ علي الطنطاوي عظيم ويستحق عليه التكريم، لكن أعظم من
سعة علمه وكثرة فنونه ودائرة معارفه أنه قد رضي بالله ربّاً وبالإسلام
ديناً، وبمحمد نبيّل، وهنا عظمة الإنسان، وغاية نبله، وذروة كماله البشري،
حيث يبارك في علمه، ويصلح عمله، ويرتفع ذكره، ويستقيم منهجه، وتطيب كلماته،
وتعذب عبارته، ويحلو أدبه، وهذا بعينه الذي حببنا في شيخ الجيل، وأستاذ
الأدب، وكاتب العصر، علي الطنطاوي.
عمر بوشنة- عضو فعال
- عدد المساهمات : 91
نقاط : 4587
تاريخ التسجيل : 11/11/2012
أسير القافية- عضو ممتاز
- عدد المساهمات : 496
نقاط : 5704
تاريخ التسجيل : 19/01/2011
الموقع : وكن رجـــلاً إن أتــو بعـــــده ** يقــــولـــون مرّ وهــــذا الأثــــر
مواضيع مماثلة
» بديع الوصف من كلام العرب
» الكاتب الأديب ...والشيطان
» الأديب وثقافة الاتهام
» لماذا يخاف الأديب العربي من كتابة سيرته الذاتية؟ د. أمين الزاوي
» تهنئة للدكتور كشنيط
» الكاتب الأديب ...والشيطان
» الأديب وثقافة الاتهام
» لماذا يخاف الأديب العربي من كتابة سيرته الذاتية؟ د. أمين الزاوي
» تهنئة للدكتور كشنيط
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأربعاء 20 ديسمبر 2023, 10:55 من طرف مدير المنتدى
» العدد الثالث من مجلة " آفاق علمية "
الأحد 01 أغسطس 2021, 10:21 من طرف Houcine22
» الشاعر منتميا وملتزما
الأحد 14 أكتوبر 2018, 20:12 من طرف مدير المنتدى
» العرب وكرة القدم
الإثنين 02 يوليو 2018, 20:10 من طرف مدير المنتدى
» الخامس من يوليو (جويلية) مجددا
الإثنين 02 يوليو 2018, 19:42 من طرف مدير المنتدى
» أهلا بشهر التوبة والغفران
الأربعاء 07 يونيو 2017, 11:21 من طرف أسير القافية
» لو عثرت بغلة في العراق ...
الجمعة 03 مارس 2017, 20:17 من طرف أسير القافية
» مسابقة الدخول إلى مدرسة الدكتوراه بتامنغست
الخميس 06 أكتوبر 2016, 16:21 من طرف أسير القافية
» وما بكم من نعمة فمن الله
الخميس 06 أكتوبر 2016, 15:58 من طرف أسير القافية