المواضيع الأخيرة
بحـث
سحابة الكلمات الدلالية
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
مدير المنتدى | ||||
أسير القافية | ||||
ونشريس | ||||
محب العلماء | ||||
هويدا | ||||
حمداوي عبد الرحمان بن قاس | ||||
شوقي نذير | ||||
الأصيل | ||||
تحيا الجزائر | ||||
عبدالله بن حامو |
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 6 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 6 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 53 بتاريخ الأحد 14 أبريل 2019, 17:47
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 1352 عُضو.آخر عُضو مُسجل هو روفي فمرحباً به.
أعضاؤنا قدموا 3419 مساهمة في هذا المنتدى في 1524 موضوع
قصة قصيرة ( الرُوَيْجـِـل )
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
قصة قصيرة ( الرُوَيْجـِـل )
ـ الرُوَيْـجِـل ـ
.. ويستيقظ فزِعاً من نومه هذه المرة وهو يرى نفسه على حافة جرف يكاد يتخطفه الحبس الذي لا يرجو دخوله .. ليته ما أقبل على ما كان يظنه سينجيه من همِّ الزمن ، ليته ما أدخل يده تلك الليلة إلى جيبه واستل منها ورقة نقدية سلمتها يسراه واستلمت يمناه مكانها استمارة ملأها من دون شعور فسال لها لعابه ، وشمَّ رائحتها ، واستعطر ببيريق لونها ، وجحظت عيناه لبهائها حينما أغواه ذاك المشؤوم من أصدقائه القدامى بأن عصراً ذهبياً سيظلله ولا مجال لرفض ما جاء من أجله .
يا لها من كلمات دَسِمة خرجت من فمه ذاك الملعون وهو يقول له في برودة أكثر من برودة تلك الليلة : لا داعي للتردد .. هذا كنز جاءك من السماء .
وهو يهمُّ بمغادرته سمعه صاحب السيارة يقول له وهو يمسك بيده بعدما وقــَّـع في أسفل الورقة : " مَا تَنْسَاشْ صَاحْبَكْ " !
تمدَّد الرُوَيْجِل على ظهره وهو يحملق في سقف بيته ونفسه لمَّا تستيقظ بعد من فزعها ، لقد بات ليلته البارحة مصلوباً تحت أوهام تـُرَّهاته ، ممحوقاً في غياهب خزعبلاته ، تنقضُّ عليه من حين لحين تساؤلاته ، فيظل عاجزاً كيف السبيل للتجرُّد منها وهي تلاحقه من غير شفقة ، تستل منه قلبه الذي يكاد يفلت من فؤاده .. ما أمرَّها ساعات الانتظار وهي تتمطى تاركة وراءها غبار الحقيقة ، وما هي إلا لحظات حتى عاودته موجة الشرود المضني فراح يسترق السمع علَّ الأفراد الذي ينتظر قدومهم يطلون عليه مدجَّجين بالسلاح وهم يقودونه أمامهم إلى السجن ، السجن الذي لم يذق مرارته ـ كما زعم ـ في حياته ، فأضحى يتباهى بين عشية وضحاها بين أقرانه ممن نخر الطمع عظامهم ، وأشربهم جشع ما كانوا يتقاضونه نفوسهم ، فسحقتهم لعنة الذين ضمَّ التراب أجسادهم .. أتراه سعيد بحياة اللهيب الذي أضحت شراراته تلسعه من فترة لأخرى ؟ أم هي حياة الحرب التي ظل عليها عاكفاً وبندقيته لا تفارق يده ستطاله هذه المرة ؟!
نظر الرُوَيْجِل إلى ساعته وانقلب على جنبه الأيمن وشرع في استرجاع ما حدث معه أول مرة حينما أقلَّ سيارة طاكسي في يوم عاصفٍ وهو يحسب عدد الاستمارات التي جاءته في ظرفٍ مغلق ، لم يعِ بادئ الأمر ما الذي كان فيه ذاك الظرف ، فقد استلمه من صاحبه القديم وهو يزيِّن له مَلْأَها كلها ..
ركب المرافق سيارته وأدار مقودها وشرع يرج الطريق رجّاً ، وهذا الذي بجانبه لا يزال منهمكاً في تفحص أوراقه الفاقعة لونها ، يخرج هذه ويدس تلك ، ويرمي بالأخرى تحت الثانية ، وبالأولى فوق الأخرى .. متلئباً كان هو .. شارد الذهن كأنّه ملاحق ، عيناه تضيقان وتتسعان ، يتفحص من حين لحين نظارته ، يبحث عنها في جيب قميصه الداخلي ، ثم تسترسل يده اليمنى إلى الجيب الخارجي ، والقلم الأسود على أذنه يميل كلما مال رأسه الخالي من الشعر وسطه ..
ومن حين لحين يسترق السائق نظرة نحوه وأسئلة كثيرة تدور في خلده ، وكلما همَّ بتكليمه أشار إليه أن تابع السير ريثما أنهي من عملي ..
كانت السيارة تبحث لها مكاناً وسط طريق لا يعلم سائقها أين ستركن به في كل لحظة ، فقد قال له صاحبه قبل المغادرة : سِرْ وكلما آمرك بالوقوف توقف !
استغرب السائق بادئ الأمر لطلب الذي أغلق على نفسه أبواب السيارة بإحكام ، ولم يترك له فرصة الاستفسار ؛ فقد أعلمه بأنَّ أجرة هذا اليوم على حسابه وزيادة .. فلم يكن من السائق إلا مباركة قراره بعدما أيقن أن ثمن ما سيناله منه يعادل أجرة ثلاثة أيام بكاملها في سيارته التي تحنّ إلى بريق طلاءٍ يعيد لها بهاءها .
لم يكن يخطر على باله هذا الرُوَيْجِل أنّ يداً طويلة ستنقلب عليه أيما منقلبٍ ، كيف به الآن يصنع وحماقات نفسه تتقزَّم فوق هامته التي لم يرفعها يوماً ؟ هل ستشفع له بطاقته الباهتة أن ينجو مما علِمَه ذاك المساء من أشباهه بأن لجنة تحقيق خاصة قادمة من الشمال تودُّ التحقيق في شأن حاملي السلاح ضد الاستعمار الفرنسي بهذه القرية ؟
لم يستطع المغلوب على أمره أن يبتلع ما يُحاكُ ضدَّه ، فقفز من مكانه ونظر خلفه فإذا باب الحوش مقفل .. إنه لا يأمن أن يأتيه صاحبه يحذره من جديد عما أوجس منه خيفة ..
لماذا أنا دون غيري يأتونني ؟ جلُّ أهل هذه الدشرة لهم بطاقات أمضوها أمام عينيّ وهم يقفزون من شدة ما يجنونه من ورائها هم وزوجاتهم .. إذا قـُبِضَ عليَّ سأسوقهم معي ولن أخلـِّـف ورائي أحداً !
.. كان السائق في حيرة من أمره كلما أمره صاحبه بالتوقف عند كل بيتٍ يعرفه ، يراه يقفز كل حين من مقعده ويدقُّ الباب فيحدِّث صاحب البيت فترة من الزمن وهو يقول له : وقـِّـعْ هنا .. مبارك لك المِنحة .. و " مَا تَنْسَاشْ صَاحْبَكْ " !
لقد كان يعلم أن الطريق الذي قَـَبِله لنفسه سيجرُّ عليه الويلات ؛ إلا أن يد العَمَى أجبرته على المضيّ فيه فلا أحد مهتم بأحد ، الناس كلهم في تيهان ، والجبان من لم يستغل الفرص ، وأن عهد المراقبة قد ولَّى من غير رجعة ، فالكل منغمس حتى حلقومه .. هكذا كانت نفسه تخامره بعدما علم بأن قريته ليست الوحيدة التي هبَّت عليها هذه النعمة (سمَّاها هو وبعض أصحابه حينما لعقوا من حلاوتها) ..
كان الرُوَيجِل والأربعون شاهداً ، رجالا ونساءً ، يصطفون تحت جدار منظمتهم التي انتسبوا إليها على مرمى حجر من أهلها ، فتراهم ينظرون لبعظهم من طرفٍ خفي .. كانت عيونهم شاهقة في ذاك الماضي الذي حاربوا فيه دون أن يراهم أحد ، وها هم اليوم يريدون إثبات هويتهم كي لا تُهضم حقوقهم كما هُضمت حقوق من شارك بالمال والنفيس في طرد أسراب الغربان والوحوش الضارية .. إنها ساعات الفصل في حياتهم الجديدة ، بقوا جاثمين ينتظرون دورهم الواحد تلو الآخر وأيديهم ترتعش في صمت من قلوبهم ، يتلوَّنون في أمكنتهم مائة مرة ، ويسأل أحدهم رُوَيجلاً بجانبه : أتراهم يؤمنون بما سندلي به أمام هؤلاء الحمقى بالداخل ؟ فيجيبه صاحبه في مكر : المهم شاهديْن يشهدان معك أنك كنت مع الأبطال يوم الميعاد .. فيفاجئهما آخر كان يسترق السمع قائلا : .. أو أنك رأيت أحد هؤلاء الأبطال بأم عينيك .. أو حتى أنك شعرت بوجودهم !
ليلة سقيمة الأحلام عاشها المتربع على عرش أحزانه ، فلا زالت فزع الكلمات العابرة تتتبَّعه أينما قلـَّـب بصره ، ولا يكاد يهضم حقيقة ما قاله له صاحبه في شأن هذه اللجنة القادمة .. كان يراها تهجم عليه بأسلحة لا لون لها ، وتقوده أمامها إلى مثواه الأخير ، فتحاصره بألفِ سؤال وسؤال .. إنه لا يدري ما سيقوله لهم حينما ينهالون عليه بأبصارهم يحدِّقون في هامته ، ويمطرونه بوابل شكوكهم : أين كنتَ تحارب ؟ في أيِّ منطقة شهدت فلان وفلان ؟ ماذا قدَّمت لهم ؟ هل حينما استجوتك فرق التفتيش الاستعمارية كشفت لهم عن أصحابك ؟ متى نفذت عملية " الشبح الأسمر" ؟ وهل كنت ضمن رجالنا تدافع عن عِرض هذه القرية ؟ .. قلتَ لنا أنك فجَّرت طائرة بمفردك ؟! ما نوع السلاح الذي أسقطته بها ؟ وهل صحيح أنك قتلت من العدو سبعين رجلا ؟ أيُّ قوَّةٍ تتمتع بها أيها الرجل .. أيُّ صبرٍ أفرغه الله عليك أيها البطل ؟!
كل هذه الهواجس كانت تعكـِّر على الرُوَيْجِل منامه وتحرمه لذة السمر الذي لم يشتم رائحته منذ سماعه الخبر ، ولا يدري أين ستحطُّ به قوافل الانتظار .. كانت لا تزال صاحية عيناه والخوف يعصر قلبه وينزع منه حبُّ البقاء في نعيمه لباسه ، لا يكاد يصدِّق أن أيام العزِّ ستولِّي ظهرها عنه وتقتلع منه هيبته التي فرضها هو أشباهه ، إنه يتسلل في مخبئه في حذر ، فيقفز ثانية من فراشه نحو النافذة والشمس تبسط رداءها على القرية ، إنه يخشى أن يكون أول من تطرق بابه لجنة الحساب فتجذبه من عرقوبه ، صار كالأسير في بيته لا يغادره إلا حينما تعلمه زوجته أن البيت يحنُّ إلى جولته الاعتيادية للسوق ، حتى ابنه الوحيد لاحظ شروده ولم يعرف سبب ما هو فيه ، فراح يستطلع خبره من أمه فتخبره بما يكابده أبوه ، فيهزُّ الابن رأسه قائلا لها : كم قلتُ له مراراً أن يدع عنه ما ليس منه بدٌّ ؛ لكنه أبى واستصغرني .
.. سبعة أيام بلياليها تركت آثارها القاسية في وجه هذا الذي بدأ يتراجع عن شكــِّـه ، فرجع إلى مكانه وهتف من حينه لصاحبه ، فيتفاجأ بأن خبر اللجنة ما هو إلا إشاعة نشرها مبغضوه لينالوا منه ، فيتنفس الصعداء وتعود له عنجريته ، فيستقيم في وقفته ويهمُّ بمغادرة البيت .. وهو في الطريق إلى صاحبه بسيارته التي تسحر الألباب شرع في استرجاع ما حدث له طوال هذه الأيام القاسية ، ثم ما يلبث أن تفترَّ فوق شفتيه ابتسامة حاول إظهارها في مكر وهو ينزل من سيارته مستقبلا صاحبه وهو يسرَّ له في أذنه كي لا يسمعه من كان في المقهى : " طاحْ منِّي النـُّـصْ يَا صَاحْبِي " ! ..
جلس الهاربان من جحيم نار المستعمِر ، وطلبا فنجانا قهوة من النادل ، فشرع كلاهما يحدِّق في صاحبه إلى أن انفجرا ضحكاً ، فشدَّا أنظار من كان في المقهى إليهما ، فقال له صاحبه وهو يبتسم : " رَابِـيـلْ جْدِيدَه رَاهَا فـَالطـْرِيقْ " ! .. ثم ما فتئا يقهقهان هذه المرة ..
.. ويستيقظ فزِعاً من نومه هذه المرة وهو يرى نفسه على حافة جرف يكاد يتخطفه الحبس الذي لا يرجو دخوله .. ليته ما أقبل على ما كان يظنه سينجيه من همِّ الزمن ، ليته ما أدخل يده تلك الليلة إلى جيبه واستل منها ورقة نقدية سلمتها يسراه واستلمت يمناه مكانها استمارة ملأها من دون شعور فسال لها لعابه ، وشمَّ رائحتها ، واستعطر ببيريق لونها ، وجحظت عيناه لبهائها حينما أغواه ذاك المشؤوم من أصدقائه القدامى بأن عصراً ذهبياً سيظلله ولا مجال لرفض ما جاء من أجله .
يا لها من كلمات دَسِمة خرجت من فمه ذاك الملعون وهو يقول له في برودة أكثر من برودة تلك الليلة : لا داعي للتردد .. هذا كنز جاءك من السماء .
وهو يهمُّ بمغادرته سمعه صاحب السيارة يقول له وهو يمسك بيده بعدما وقــَّـع في أسفل الورقة : " مَا تَنْسَاشْ صَاحْبَكْ " !
تمدَّد الرُوَيْجِل على ظهره وهو يحملق في سقف بيته ونفسه لمَّا تستيقظ بعد من فزعها ، لقد بات ليلته البارحة مصلوباً تحت أوهام تـُرَّهاته ، ممحوقاً في غياهب خزعبلاته ، تنقضُّ عليه من حين لحين تساؤلاته ، فيظل عاجزاً كيف السبيل للتجرُّد منها وهي تلاحقه من غير شفقة ، تستل منه قلبه الذي يكاد يفلت من فؤاده .. ما أمرَّها ساعات الانتظار وهي تتمطى تاركة وراءها غبار الحقيقة ، وما هي إلا لحظات حتى عاودته موجة الشرود المضني فراح يسترق السمع علَّ الأفراد الذي ينتظر قدومهم يطلون عليه مدجَّجين بالسلاح وهم يقودونه أمامهم إلى السجن ، السجن الذي لم يذق مرارته ـ كما زعم ـ في حياته ، فأضحى يتباهى بين عشية وضحاها بين أقرانه ممن نخر الطمع عظامهم ، وأشربهم جشع ما كانوا يتقاضونه نفوسهم ، فسحقتهم لعنة الذين ضمَّ التراب أجسادهم .. أتراه سعيد بحياة اللهيب الذي أضحت شراراته تلسعه من فترة لأخرى ؟ أم هي حياة الحرب التي ظل عليها عاكفاً وبندقيته لا تفارق يده ستطاله هذه المرة ؟!
نظر الرُوَيْجِل إلى ساعته وانقلب على جنبه الأيمن وشرع في استرجاع ما حدث معه أول مرة حينما أقلَّ سيارة طاكسي في يوم عاصفٍ وهو يحسب عدد الاستمارات التي جاءته في ظرفٍ مغلق ، لم يعِ بادئ الأمر ما الذي كان فيه ذاك الظرف ، فقد استلمه من صاحبه القديم وهو يزيِّن له مَلْأَها كلها ..
ركب المرافق سيارته وأدار مقودها وشرع يرج الطريق رجّاً ، وهذا الذي بجانبه لا يزال منهمكاً في تفحص أوراقه الفاقعة لونها ، يخرج هذه ويدس تلك ، ويرمي بالأخرى تحت الثانية ، وبالأولى فوق الأخرى .. متلئباً كان هو .. شارد الذهن كأنّه ملاحق ، عيناه تضيقان وتتسعان ، يتفحص من حين لحين نظارته ، يبحث عنها في جيب قميصه الداخلي ، ثم تسترسل يده اليمنى إلى الجيب الخارجي ، والقلم الأسود على أذنه يميل كلما مال رأسه الخالي من الشعر وسطه ..
ومن حين لحين يسترق السائق نظرة نحوه وأسئلة كثيرة تدور في خلده ، وكلما همَّ بتكليمه أشار إليه أن تابع السير ريثما أنهي من عملي ..
كانت السيارة تبحث لها مكاناً وسط طريق لا يعلم سائقها أين ستركن به في كل لحظة ، فقد قال له صاحبه قبل المغادرة : سِرْ وكلما آمرك بالوقوف توقف !
استغرب السائق بادئ الأمر لطلب الذي أغلق على نفسه أبواب السيارة بإحكام ، ولم يترك له فرصة الاستفسار ؛ فقد أعلمه بأنَّ أجرة هذا اليوم على حسابه وزيادة .. فلم يكن من السائق إلا مباركة قراره بعدما أيقن أن ثمن ما سيناله منه يعادل أجرة ثلاثة أيام بكاملها في سيارته التي تحنّ إلى بريق طلاءٍ يعيد لها بهاءها .
لم يكن يخطر على باله هذا الرُوَيْجِل أنّ يداً طويلة ستنقلب عليه أيما منقلبٍ ، كيف به الآن يصنع وحماقات نفسه تتقزَّم فوق هامته التي لم يرفعها يوماً ؟ هل ستشفع له بطاقته الباهتة أن ينجو مما علِمَه ذاك المساء من أشباهه بأن لجنة تحقيق خاصة قادمة من الشمال تودُّ التحقيق في شأن حاملي السلاح ضد الاستعمار الفرنسي بهذه القرية ؟
لم يستطع المغلوب على أمره أن يبتلع ما يُحاكُ ضدَّه ، فقفز من مكانه ونظر خلفه فإذا باب الحوش مقفل .. إنه لا يأمن أن يأتيه صاحبه يحذره من جديد عما أوجس منه خيفة ..
لماذا أنا دون غيري يأتونني ؟ جلُّ أهل هذه الدشرة لهم بطاقات أمضوها أمام عينيّ وهم يقفزون من شدة ما يجنونه من ورائها هم وزوجاتهم .. إذا قـُبِضَ عليَّ سأسوقهم معي ولن أخلـِّـف ورائي أحداً !
.. كان السائق في حيرة من أمره كلما أمره صاحبه بالتوقف عند كل بيتٍ يعرفه ، يراه يقفز كل حين من مقعده ويدقُّ الباب فيحدِّث صاحب البيت فترة من الزمن وهو يقول له : وقـِّـعْ هنا .. مبارك لك المِنحة .. و " مَا تَنْسَاشْ صَاحْبَكْ " !
لقد كان يعلم أن الطريق الذي قَـَبِله لنفسه سيجرُّ عليه الويلات ؛ إلا أن يد العَمَى أجبرته على المضيّ فيه فلا أحد مهتم بأحد ، الناس كلهم في تيهان ، والجبان من لم يستغل الفرص ، وأن عهد المراقبة قد ولَّى من غير رجعة ، فالكل منغمس حتى حلقومه .. هكذا كانت نفسه تخامره بعدما علم بأن قريته ليست الوحيدة التي هبَّت عليها هذه النعمة (سمَّاها هو وبعض أصحابه حينما لعقوا من حلاوتها) ..
كان الرُوَيجِل والأربعون شاهداً ، رجالا ونساءً ، يصطفون تحت جدار منظمتهم التي انتسبوا إليها على مرمى حجر من أهلها ، فتراهم ينظرون لبعظهم من طرفٍ خفي .. كانت عيونهم شاهقة في ذاك الماضي الذي حاربوا فيه دون أن يراهم أحد ، وها هم اليوم يريدون إثبات هويتهم كي لا تُهضم حقوقهم كما هُضمت حقوق من شارك بالمال والنفيس في طرد أسراب الغربان والوحوش الضارية .. إنها ساعات الفصل في حياتهم الجديدة ، بقوا جاثمين ينتظرون دورهم الواحد تلو الآخر وأيديهم ترتعش في صمت من قلوبهم ، يتلوَّنون في أمكنتهم مائة مرة ، ويسأل أحدهم رُوَيجلاً بجانبه : أتراهم يؤمنون بما سندلي به أمام هؤلاء الحمقى بالداخل ؟ فيجيبه صاحبه في مكر : المهم شاهديْن يشهدان معك أنك كنت مع الأبطال يوم الميعاد .. فيفاجئهما آخر كان يسترق السمع قائلا : .. أو أنك رأيت أحد هؤلاء الأبطال بأم عينيك .. أو حتى أنك شعرت بوجودهم !
ليلة سقيمة الأحلام عاشها المتربع على عرش أحزانه ، فلا زالت فزع الكلمات العابرة تتتبَّعه أينما قلـَّـب بصره ، ولا يكاد يهضم حقيقة ما قاله له صاحبه في شأن هذه اللجنة القادمة .. كان يراها تهجم عليه بأسلحة لا لون لها ، وتقوده أمامها إلى مثواه الأخير ، فتحاصره بألفِ سؤال وسؤال .. إنه لا يدري ما سيقوله لهم حينما ينهالون عليه بأبصارهم يحدِّقون في هامته ، ويمطرونه بوابل شكوكهم : أين كنتَ تحارب ؟ في أيِّ منطقة شهدت فلان وفلان ؟ ماذا قدَّمت لهم ؟ هل حينما استجوتك فرق التفتيش الاستعمارية كشفت لهم عن أصحابك ؟ متى نفذت عملية " الشبح الأسمر" ؟ وهل كنت ضمن رجالنا تدافع عن عِرض هذه القرية ؟ .. قلتَ لنا أنك فجَّرت طائرة بمفردك ؟! ما نوع السلاح الذي أسقطته بها ؟ وهل صحيح أنك قتلت من العدو سبعين رجلا ؟ أيُّ قوَّةٍ تتمتع بها أيها الرجل .. أيُّ صبرٍ أفرغه الله عليك أيها البطل ؟!
كل هذه الهواجس كانت تعكـِّر على الرُوَيْجِل منامه وتحرمه لذة السمر الذي لم يشتم رائحته منذ سماعه الخبر ، ولا يدري أين ستحطُّ به قوافل الانتظار .. كانت لا تزال صاحية عيناه والخوف يعصر قلبه وينزع منه حبُّ البقاء في نعيمه لباسه ، لا يكاد يصدِّق أن أيام العزِّ ستولِّي ظهرها عنه وتقتلع منه هيبته التي فرضها هو أشباهه ، إنه يتسلل في مخبئه في حذر ، فيقفز ثانية من فراشه نحو النافذة والشمس تبسط رداءها على القرية ، إنه يخشى أن يكون أول من تطرق بابه لجنة الحساب فتجذبه من عرقوبه ، صار كالأسير في بيته لا يغادره إلا حينما تعلمه زوجته أن البيت يحنُّ إلى جولته الاعتيادية للسوق ، حتى ابنه الوحيد لاحظ شروده ولم يعرف سبب ما هو فيه ، فراح يستطلع خبره من أمه فتخبره بما يكابده أبوه ، فيهزُّ الابن رأسه قائلا لها : كم قلتُ له مراراً أن يدع عنه ما ليس منه بدٌّ ؛ لكنه أبى واستصغرني .
.. سبعة أيام بلياليها تركت آثارها القاسية في وجه هذا الذي بدأ يتراجع عن شكــِّـه ، فرجع إلى مكانه وهتف من حينه لصاحبه ، فيتفاجأ بأن خبر اللجنة ما هو إلا إشاعة نشرها مبغضوه لينالوا منه ، فيتنفس الصعداء وتعود له عنجريته ، فيستقيم في وقفته ويهمُّ بمغادرة البيت .. وهو في الطريق إلى صاحبه بسيارته التي تسحر الألباب شرع في استرجاع ما حدث له طوال هذه الأيام القاسية ، ثم ما يلبث أن تفترَّ فوق شفتيه ابتسامة حاول إظهارها في مكر وهو ينزل من سيارته مستقبلا صاحبه وهو يسرَّ له في أذنه كي لا يسمعه من كان في المقهى : " طاحْ منِّي النـُّـصْ يَا صَاحْبِي " ! ..
جلس الهاربان من جحيم نار المستعمِر ، وطلبا فنجانا قهوة من النادل ، فشرع كلاهما يحدِّق في صاحبه إلى أن انفجرا ضحكاً ، فشدَّا أنظار من كان في المقهى إليهما ، فقال له صاحبه وهو يبتسم : " رَابِـيـلْ جْدِيدَه رَاهَا فـَالطـْرِيقْ " ! .. ثم ما فتئا يقهقهان هذه المرة ..
أبو ريم البشاري- عضو جديد
- عدد المساهمات : 15
نقاط : 3801
تاريخ التسجيل : 04/08/2014
رد: قصة قصيرة ( الرُوَيْجـِـل )
حياك الله أبو ريم
قصة رائعة هادفة ومسلية
المزيد من التألق سيدي
أسير القافية- عضو ممتاز
- عدد المساهمات : 496
نقاط : 5705
تاريخ التسجيل : 19/01/2011
الموقع : وكن رجـــلاً إن أتــو بعـــــده ** يقــــولـــون مرّ وهــــذا الأثــــر
رد: قصة قصيرة ( الرُوَيْجـِـل )
شكرالقراءتك قصتي
هذا يعطيني دفعاً للأمام
هذا يعطيني دفعاً للأمام
أبو ريم البشاري- عضو جديد
- عدد المساهمات : 15
نقاط : 3801
تاريخ التسجيل : 04/08/2014
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأربعاء 20 ديسمبر 2023, 10:55 من طرف مدير المنتدى
» العدد الثالث من مجلة " آفاق علمية "
الأحد 01 أغسطس 2021, 10:21 من طرف Houcine22
» الشاعر منتميا وملتزما
الأحد 14 أكتوبر 2018, 20:12 من طرف مدير المنتدى
» العرب وكرة القدم
الإثنين 02 يوليو 2018, 20:10 من طرف مدير المنتدى
» الخامس من يوليو (جويلية) مجددا
الإثنين 02 يوليو 2018, 19:42 من طرف مدير المنتدى
» أهلا بشهر التوبة والغفران
الأربعاء 07 يونيو 2017, 11:21 من طرف أسير القافية
» لو عثرت بغلة في العراق ...
الجمعة 03 مارس 2017, 20:17 من طرف أسير القافية
» مسابقة الدخول إلى مدرسة الدكتوراه بتامنغست
الخميس 06 أكتوبر 2016, 16:21 من طرف أسير القافية
» وما بكم من نعمة فمن الله
الخميس 06 أكتوبر 2016, 15:58 من طرف أسير القافية