المواضيع الأخيرة
بحـث
سحابة الكلمات الدلالية
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
مدير المنتدى | ||||
أسير القافية | ||||
ونشريس | ||||
محب العلماء | ||||
هويدا | ||||
حمداوي عبد الرحمان بن قاس | ||||
شوقي نذير | ||||
الأصيل | ||||
تحيا الجزائر | ||||
عبدالله بن حامو |
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 5 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 5 زائر :: 2 عناكب الفهرسة في محركات البحثلا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 53 بتاريخ الأحد 14 أبريل 2019, 17:47
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 1352 عُضو.آخر عُضو مُسجل هو روفي فمرحباً به.
أعضاؤنا قدموا 3419 مساهمة في هذا المنتدى في 1524 موضوع
ماذا نقرأ في النص الأدبي..
صفحة 1 من اصل 1
ماذا نقرأ في النص الأدبي..
ماذا نقرأ في النص الأدبي..
1- مستويات القراءة:
إِننا نقرأُ دائماً عدّة أشياءٍ معاً في نصِّ ما، وفكرةُ تعدّد معاني النصِّ الواحدِ أو تعدّد مستوياتِ القراءة هي قديمةٌ قِدَمَ القراءة ذاتِها.
ومنذ الإغريقِ كان التدريسُ مُدرِكاً للصعوبات التي يُثيرُها تأويلُ النصوصِ ويُؤكِّد على ضرورةِ الاعتمادِ على منهجٍ واعٍ في القراءة. وكان السوفسطائيون أولَ من وضع قواعدَ ذلك المنهج وجاء بعدهم أرسطو، ومؤلّفاتُهُ ونخصُّ منها كتاب البلاغة وكتاب الشعر. وثبتَ عندهم أن القافيةَ ووقعَها على نفس القارئ"، وأسلوبَ المؤلِّفِ وفنونَ الخطابةِ والبديع، كلّ ذلك عناصرُ موضوعيةٌ نستطيع بفضلِهِا إنشاءَ تحليلٍ للنصّ وبالتالي أن نقبضَ على ناصيةِ معنىً من شأنِهِ الإفلات أبداً.
ولقد قطعَ فقهُ اللغة مرحلةً جديدةً في عهدِ أوج الاسكندرية وازدهارِها أيام البطالمة (بين القرن الرابع والأول قبل الميلاد)، فقد كان تجميعُ التراث الأدبي الإغريقي وتصنيفهُ في صدور مكتباتِها يقتضي نشاطاً فكرّياً ونقديّاً كبيريْن. ولم تكن غايةُ علمِ اللغةِ عند كتّابها تحقيقَ النصوص الأدبية المحمولة من كل الأصقاع وحسب وإنما تحليلَها وتأويلَها ونقدَها. وكان نهجُ علماء الاسكندرية في ذلك صارماً يسعى إلى التدقيقِ ومقاربةِ ظاهر النصِّ فكانَ ذلك إيذاناً بالقطيعة مع التقاليد اليونانيةِ التي أسسها الرواقيون، ويرفع لواءَها علماءُ بيرغاموس في آسية الصغرى الإغريقية وكانت تزاحمُ مدينة الاسكندرية على الصدارة. وكان هؤلاء يدعون إلى تأويل النصوص تأويلاً مجازياً ويعملون على إظهار معنى النصِّ الخفيِّ وكشف النقاب عن نيِّةِ الكاتبِ ومراميهِ الخبيئة. وكانت نصوص هوميروس بطبيعةِ الحالِ مادّةَ دراستهم المفضَّلة.
والحقيقةُ أن هاتين المدرستين ورغم البون الشاسع بينهما كانتا تطلبان أمراً واحداً هوإيجادُ طريقةٍ في التأويلِ تلمّ بكلِّ أبعاد النص الأدبي. وسوف تُخصِبُ كلٌّ منهما الأخرى.
وأما في العصور الوسطى الأوروبيةِ فإن تأويلَ التوراة بشقيْها العهد القديم والعهد الجديد، هو الذي سيُنشِئُ منهجاً تفسيرياً حقيقياً. وكان هذا يُميزُ بين أربع مستويات في معنى تلك النصوص المقدسة. فهناك المعنى "الحرفي" (أي القصة المحكيّة)، والمعنى "المجازي" (العهدُ القديمُ يُبشّرُ بالعهد الجديد). والمعنى "الوعظي" (مغزى القصةِ الأخلاقي)،وأخيراً المعنى "الباطني" (قيمةُ الرسالة التوراتية عند خاتمة الإنسان).
ثم ما لبثَ هذا المذهبُ في التفسيرِ أن راحَ يُطبَّق على النصوصَ الأدبيةِ الدنيويةِ. وكان دانته الياري (1265-1321)، يُطالب بأن يُطبّق النقّادُ كذلك منهجَهم هذا على ملحمته الشعرية الألعوبة الإلاهية.
وأمّا في ميدان الحضارة العربية فنستطيع القولَ بأن كلَّ علوم اللغة العربية وربما كذلك كل علوم الثقافة الإسلامية قد نشأت في أول عهدها حول مسألة قراءة النص المُؤسِّسِ لهذه الحضارةِ وتأويلهِ ونعني القرآن الكريم، ووضع منهج علمي في التفسير.
ولقد بدأَ الجدلُ الفكري منذ العقد الخامس من القرن السابع الميلادي أي بعد مقتلِ الخليفةِ الثالث عثمان بن عفّان وانقسام الأمّة إلى أحزاب وشيعٍ يبذلُ أنصارُها كلَّ جهدهم لتبرير مواقفهم السياسيةِ تلك بآياتِ القرآن، وبنصوص الحديث يفسّرونَها ويُؤولونَها لدعم قضيتِهم أو لنقضِ دعاوى الخصمِ.
ثم ظهرت مع اتساع رقعة الدولة العربية ودخول أمم أخرى ذات لغات غير العربية وثقافات مختلفةٍ وانتشار الإسلام كدين للدولة الجديدة قضايا جديدةٌ ومسائل طريفة سُئِلَ النصُ القرآني عن إجابة لها وظهرت مذاهب في تأويل القرآن عديدةٌ تعتمدُ على أسس فكرية وطرق علميةٍ مختلفةٍ.
فكان ما أسمي بالتفسير بالمأثور. وأجلُّها تفسيرُ ابن جرير الطبري (839-923)، جامع البيان في تفسير القرآن. وقد عرض فيه لأقوال الصحابة وآرائهم وذكر بعض وجوه الإعراب والقواعد لتعزيز هذا التأويلِ أو ذاك ولتفضيل هذه القراءة على غيرها. ومن التفاسير بالمأثور تفسير ابن كثير، في القرن الرابع عشر وكتاب السيوطي (1407-1475)، الدرِ المنثورِ في التفسير بالمأثور.
وكان ما أسمي بالتفسير بالرأي. وقد أثار جدلاً شديداً بين العلماء فمنهم من حرّمه ومنهم من جوّزه. ولكن اختلافهم كان يقوم في الحقيقة حول شروط القراءة والقواعد التي ينبغي الأخذ بها حين التأويل وليس حول مشروعية تعدد قراءات القرآن الكريم. ولقد يستطيع القارئُ الراغبُ في معرفةِ هذا الجدلِ وبمختلف شروط النهج التي لابد منها لقبول التفسير بالرأي أن يعود إلى مؤلّف قاضي دمشق بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي (1344-1391)، البرهان في علوم القرآن (1) وأشهر التفاسير التي تتوافر فيها تلك الشروط تفسيرُ فخر الدين الرازي (1149-1209)، المسمى مفاتيح الغيب والمشهور بالتفسير الكبير، وتفسيرُ عبد الله بن عمر البيضاوي (توفي نحو 1282)، المسمى أنوار التنزيل وأسرار التأويل.
وظهرت تفاسير للقرآن تدافع عن الفرق الإسلامية وتنتصر لها وتعتمد في تأويلها للنص المُؤسِّس على مقدمات فكرية أو فلسفية مختلفة عن التفاسير التي سبق ذكرُها. من ذلك تفاسير المعتزلة والمتصوّفة والباطنية وغيرها. فقام تأويل المعتزلة على المذهب الكلامي وحسب مسلّمتهم الفكرية: الحسنُ ما يستحسنُهُ العقلُ والقبيحُ ما يستقبحهُ العقلُ. ولم يعتمدوا إلاّ نادراً النصوصَ النبوية في أدواتهم لشرح معاني الآيات. وخيرُ ممثّل لهذه النزعة العقلية في القراءة محمود بن عمر جار الله الزمخشري (1075-1144)، في كتابه الكشّاف عن حقائق التنزيل.
ويغلب على تفسير المتصوّفة التعقيدُ والإحالةُ إلى أنظمةٍ معرفيةٍ أخرى لتأويل النص القرآني. ذلك ممّا يجعل كلامهم غامضاً إلاّ على المشتغلِ بالشؤونِ الروحية والذي تعلم أساليب المتصوفة ومرن عليها. وأشهر التفاسير التي من هذا النوع كتاب التفسير المنسوب إلى الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي الأندلسي (1165-1240)، وهو في حقيقة الأمر من تأليف كمال الدين أبو الغنائم الكاشي (توفي 1329).
ومذهبٌ آخر في قراءة النصّ الكريم هو ما يسمى بالتأويل الإشاري. وفيه تؤوّل الآيات على غير ظاهرها مع محاولة الجمع بين الظاهر والباطن. أي أن المفسِّرَ يوردُ تفسيرَ الآيات حسب ظاهر الحرف ثم يشير إلى ما يعتبره معاني خفيةً يستنبطُها بطريق الرمز والإشارة. ومن ذلك تفسير الألوسي روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني.
وهناك تفاسير الباطنية وهم يقتصرون على الأخذ بما يعتبرونه باطن القرآن ويهملون ظاهرَهُ أي بنيته القواعدية ونظامَهُ الصرفي.. ولكلٍ من هذه المذاهب طريقته في التأويل. ولكل طريقةٍ في التأويل قواعدها العلمية ومسلماتها النظرية أي ترابط وتماسك داخليان تقوم بهما ويفسران نتائجها. وهي تشير جميعها، وبغض النظر عن الصراعات التي نشأت بين أنصار كلٍّ منها وعن الأحكام التي أطلقها بعضُهم على بعضهم الآخر، إلى وعي العرب المسلمين بتعدد مستويات القراءة في القرآن الكريم أي إلى وجود قراءات عديدة لذاتِ النص الواحد.(2).
وبطبيعة الحال فإن هذا الوعي لم يتوقف عند علوم قراءة الكتاب التأسيسيَ ولا عند العلوم الدينية التي ظهرت بفضلّها. ونحن واجدون، ومنذ منتصف القرن الثامن، نصّاً يشير بوضوح قاطع إلى وعي تعدد القراءات في النصوص الأدبية وإلى ضرورة أخذها بعين الاعتبار حين تحليلها. ففي مقدّمة عبد الله بن المقفع (724-759)، لكتابه كليلة ودمنة والتي اقتبسنا منها مقاطع في الفصلِ الثالث من كتابنا هذا يطالب الكاتبُ قارئه بأن يديم النظرَ في كتابه وأن يلتمسَ معاني خبيئةً خلف المعاني الظاهرة وأن يغوصَ إلى ما وراءَ سطح المعنى المباشر التماساً لجواهر المعاني. ويُحذّرُهُ من قراءة متوحّدة إذا حسب أن غايتَه من الكتاب هي الإخبارُ عن حيلة بهيمتين أو محاورة سبع لثور. ثم يبسط ابن المقفّع لقارئه مستويات التأويل التي يراها في نصّه فيقول:
"وينبغي للناظر في هذا الكتاب ومُقتنيه أن يعلمَ أنه ينقسم إلى أربعة أقسام وأغراضِ: أحدهما ما قصد من وضعه على ألسنة البهائم ليتسارع إلى قراءته أهلُ الهزل من الشبان فيستميلَ به قلوبَهم [ ] والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوفِ الألوان والأصباغِ ليكون أنساً لقلوب الملوكِ.[ ] والثالثُ أن يكون على هذه الصفة فيتخذهُ الملوكُ والسوقةُ فيكثر بذلك انتساخُهُ وينتفع بذلك المصوّر والناسخ أبداً. والغرض الرابع وهو الأقصى وذلك يخص الفيلسوف خاصةً أعني الوقوف على أسرار معاني الكتاب الباطنة"(3).
وهذه الأمثلة من ثقافات متباينة وعصورٍ مختلفةٍ توضح أن مسألة تعدد التأويل النظريةَ هي من بنية النص المكتوب ذاته وأن القراءةَ لم تكن لتستطيع الاكتفاء بمعنى واحد ضيق ومحصور في النص الأدبي.
1 ـ 1 ـ تعدّد الأصوات:
هناك إذن عدّةُ مستوياتٍ في قراءةِ النصِّ الأدبي أو عدّةُ أصواتٍ في النصِّ الأدبي الواحد..!..
كيف يُمكننا أن نشرحَ هذه الحقيقةَ التي يقبلُها جميعُ النقّاد اليوم؟
إننا نشرحُها ببنيةِ النصِّ الداخليِّةِ أولاً. فنحن نعرفُ أن الخطابَ الجمالي وعلى الأخص الشعر منه يفضّلُ المبنى على المعنى أي أنّه يعطي الأسبقيةَ لظاهرِ العلامة الصوتية ولجمالِها الموسيقي أو الشكلي. أي أنّه مضطرٌ للغموض والإبهام. وبتعبيرٍ آخر لأن المبنى يفرض نفسَه على حساب المعنى ولأن الشكلَ يطغى على المضمون فإن الأدبَ يلدُ معانيَ غامضةً وأفكاراً مضطربةً!...
وبما أنّ النصَّ الأدبيَّ يُنَظِّم المفرداتِ حسب جماليتها ويفرضُ عليها سياقَه الخاص فإن المفردات تنفصلُ عن معانيها الأصليةِ الأولى وتبتعدُ عنها مسافةً قد تضيقُ أو تعرضُ. وفي هذه المسافةِ التي يُحرِّرُها الهاجسُ الجمالي تفقد المعاني حدودَها الصارِمةَ وتتداخلُ ببعضها ويتأثرُ بعضهُا ببعضها الآخر فتتولّدُ معانٍ جديدةٌ وتتعدّدُ إمكانيات التأويل. إنّ الخطاب الشعريَ خاصةً يسمحُ للألفاظِ أن تهتزَّ، وأن تموجَ وتتحركَ في حريّةٍ وطلاقةٍ، وعندما يفعل ذلك فإن اللفظ لا يستدعي إلى الخاطرِ المعاني الجانبيّةَ والإضافيةَ المرتبطةَ بمعناه المباشر أو الشائعِ وحسب، ولكنّه قد يقترح معاني أخرى مختلفةً أو يوحي بصورٍ جديدةٍ لم يألفها القارئُ. الخ... وكلّنا يعرف بيتَ المتنبي (915-965)، الشهيرَ الذي قذفه متحدِّياً في وجوهِ نقّادٍ كانوا يأخذون عليه غموضَ شعرِهِ أو التباسَ معانيهِ:
أنامُ ملءَ جفوني عن شواردها
ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصِمُ
(البحر البسيط)..
أليست شواردُها هذه هي موسيقى الكلمات وتناغِمِها في أذن الشاعر تفرض نفسَها عليه فيُطلقُها كما تجيئُهُ أوسع من معناها أو أقصرَ أو أبعد؟.. وبين هذه وتلك يَنتشر غموضُ الشعرِ وسحرهُ المبهمُ ولنذكر بيتَ الأعشى الأكبر التالي من لاميته المشهورة: ودّعْ هُريرةَ..
وقد غَدَوْتُ إلى الحانوتِ يَتبعُني
شاوٍ، مِشَلٌّ، شَلولٌ، شُلْشُلٌ، شَوِلُ
وأغلبُ ظني أن الشاعر الكبيرَ قد نظمَ عجزَ بيتِهِ على هذا النحو لعذوبةِ السلسلةِ الصوتية التي يحصلُ عليها بتراصفِ الشين واللام، وبسقوطِ أحرفِ المدِّ بينها، فأخذها عليه نقّادٌ يرون أن وضوح المعنى أجدر باهتمام الشاعرِ من رصفِ الكلمات.(4)..
وتقوى صفةُ تعدِّدِ التأويلِ هذه بتعدِّدِ الشبكاتِ الدلاليةِ التي تمتازُ بها أغلبُ النصوصِ الأدبيةِ فهذه تقيمُ في نفسِ الوقتِ شبكاتٍ دلاليةً متنوعةً وتسلك في ذات اللحظة سبلَ معانٍ متشعّبةً فتقودُ قارئها إلى سبلِ تأويلٍ متباينةٍ ومتكاملةٍ معاً وإلى استخلاص وحداتٍ معنويةٍ مختلفةٍ... ماهي الشبكةُ الدلاليةُ الأساسيةُ في كتاب كليلة ودمنة؟ تربيةُ السلطانِ أم تسليةُ العوام؟ مباهاةُ العربِ بتراثِ الفرسِ وإعلاءُ حزبِ الشعوبيةِ المتعاظِمِ بعد سقوط الأمويين أم مساهمةً لوجهِ الله في إغناءِ أدبٍ بنوعٍ يجهلُهُ بعدُ؟ الخ... كيف نحدِّدُ كتابَ حي بن يقظان لابن طُفيْل (توفي 1185)؟ حكايةٌ رمزيةٌ عن الخُلقِ والخليقةِ أم قصةٌ فلسفيةٌ إشراقيةٌ ذات نزعةٍ أفلاطونيةٍ مستحدثة؟ تمثيلٌ للمخلوقِ يبلغُ ميدانَ الحكمةِ بقوة العقلِ أم وصفٌ لتخبِّط الإنسان في ميدان الواقع والمادة؟ كيف نُؤوّل بقيةَ العنوان أسرار الحكمة الإشراقية؟ أهي روايةٌ باطنيةٌ؟ ما غرضُ كتاب الحيوان الأساسي؟ دراسةٌ علميةٌ للعالم الحيواني أم محاولةٌ للاستدلال على عظمة الخالق بدراسة المخلوقات؟..
إنّ أهميةَ النصِّ الأدبي تقوم بالضبط على أنه يستحيلُ علينا أن نأخذَ بقراءةٍ دون غيرِها أو أن نُعلنَ شرعيةَ تأويلٍ وإنكار سواه..
1 ـ 2 ـ نصوص تُنسخُ ونصوص تُقرأ!
إذا كانت القراءةُ تميل إلى مُضاعفةِ المعاني فإن طبيعةَ مستوياتِ هذه المعاني وعددَها يختلفان حسب طبيعةِ النصوصِ، فليس لكلِّ النصوص ذاتُ العدد من المستويات. ولقد ميّز بعضُ النقّاد بين النصوص التي يُمكن "نسخُها" وتلك التي تُمكن "قراءتُها".. والنصوصُ الأولى هي نصوصٌ يمكن أن "ينسخها" القارئُ أي أن يؤوِّلها عدداً لا ينتهي من المرّات. أي أنّه "يكتبُها". من جديدٍ كل مرةٍ يأخذُ فيها الكتابَ بين يديْه... والنصوصُ الأخرى هي تلك التي تتضمّنُ عدداً محصوراً من القراءاتِ. أيْ أنَّ التحليلَ الأدبيَّ يكشفُ عن شبكاتِ المعاني التي ينظمها النص فينسِّقُها ويُحصيها في قراءاتٍ محدودة. وعليه فإنَّ هناك نصوصاً ما يزالُ القارئُ العربي عاجزاً عن الإحاطة بكل معانيها بسبب ما أُخْضِعَت إليه لُغتُها من جهدٍ وصنعةٍ وبسبب موهبةِ شاعرِها المطبوع. وما يزالُ النقدُ يكتشفُ فيها شبكاتٍ دلاليةً طريفة ومعانيَ جديدةً... ونحن نضعُ بين هؤلاء أبا تمّام (788-845)، والمتبني والأقوالَ المنسوبةَ إلى الجُنَيد (توفي 910)، والنفّري (توفي 965)، الخ... وهناك نصوصٌ كنصوص بشّار (696 ـ 783)، وأبي العتاهية (748-826)، وأبي نُواس (762-813).. وأغلب النصوصِ الأدبيّةِ المدرسيّةِ التي تتقبلُ قراءات متنوعةٍ ولكن محصورة العدد.
ومهما يكن الأمرُ وسواء كان النصُّ الأدبيُّ "نسخياً" أو "قرائياً".. فإنه دائماً وبسبب بنيتِه متعددُ المعاني ومتعددُ الأصوات، وهذه التعددية التي تظهرُ لنا عند القراءةِ هي التي تحدَّد النصَ على أنه أدبيٌّ.
انتقاء محب العلماء
من كتاب .نظريات القراءة والتأويل الأدبي وقضاياها - دكتور حسن مصطفى سحلول
دراسة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001
1- مستويات القراءة:
إِننا نقرأُ دائماً عدّة أشياءٍ معاً في نصِّ ما، وفكرةُ تعدّد معاني النصِّ الواحدِ أو تعدّد مستوياتِ القراءة هي قديمةٌ قِدَمَ القراءة ذاتِها.
ومنذ الإغريقِ كان التدريسُ مُدرِكاً للصعوبات التي يُثيرُها تأويلُ النصوصِ ويُؤكِّد على ضرورةِ الاعتمادِ على منهجٍ واعٍ في القراءة. وكان السوفسطائيون أولَ من وضع قواعدَ ذلك المنهج وجاء بعدهم أرسطو، ومؤلّفاتُهُ ونخصُّ منها كتاب البلاغة وكتاب الشعر. وثبتَ عندهم أن القافيةَ ووقعَها على نفس القارئ"، وأسلوبَ المؤلِّفِ وفنونَ الخطابةِ والبديع، كلّ ذلك عناصرُ موضوعيةٌ نستطيع بفضلِهِا إنشاءَ تحليلٍ للنصّ وبالتالي أن نقبضَ على ناصيةِ معنىً من شأنِهِ الإفلات أبداً.
ولقد قطعَ فقهُ اللغة مرحلةً جديدةً في عهدِ أوج الاسكندرية وازدهارِها أيام البطالمة (بين القرن الرابع والأول قبل الميلاد)، فقد كان تجميعُ التراث الأدبي الإغريقي وتصنيفهُ في صدور مكتباتِها يقتضي نشاطاً فكرّياً ونقديّاً كبيريْن. ولم تكن غايةُ علمِ اللغةِ عند كتّابها تحقيقَ النصوص الأدبية المحمولة من كل الأصقاع وحسب وإنما تحليلَها وتأويلَها ونقدَها. وكان نهجُ علماء الاسكندرية في ذلك صارماً يسعى إلى التدقيقِ ومقاربةِ ظاهر النصِّ فكانَ ذلك إيذاناً بالقطيعة مع التقاليد اليونانيةِ التي أسسها الرواقيون، ويرفع لواءَها علماءُ بيرغاموس في آسية الصغرى الإغريقية وكانت تزاحمُ مدينة الاسكندرية على الصدارة. وكان هؤلاء يدعون إلى تأويل النصوص تأويلاً مجازياً ويعملون على إظهار معنى النصِّ الخفيِّ وكشف النقاب عن نيِّةِ الكاتبِ ومراميهِ الخبيئة. وكانت نصوص هوميروس بطبيعةِ الحالِ مادّةَ دراستهم المفضَّلة.
والحقيقةُ أن هاتين المدرستين ورغم البون الشاسع بينهما كانتا تطلبان أمراً واحداً هوإيجادُ طريقةٍ في التأويلِ تلمّ بكلِّ أبعاد النص الأدبي. وسوف تُخصِبُ كلٌّ منهما الأخرى.
وأما في العصور الوسطى الأوروبيةِ فإن تأويلَ التوراة بشقيْها العهد القديم والعهد الجديد، هو الذي سيُنشِئُ منهجاً تفسيرياً حقيقياً. وكان هذا يُميزُ بين أربع مستويات في معنى تلك النصوص المقدسة. فهناك المعنى "الحرفي" (أي القصة المحكيّة)، والمعنى "المجازي" (العهدُ القديمُ يُبشّرُ بالعهد الجديد). والمعنى "الوعظي" (مغزى القصةِ الأخلاقي)،وأخيراً المعنى "الباطني" (قيمةُ الرسالة التوراتية عند خاتمة الإنسان).
ثم ما لبثَ هذا المذهبُ في التفسيرِ أن راحَ يُطبَّق على النصوصَ الأدبيةِ الدنيويةِ. وكان دانته الياري (1265-1321)، يُطالب بأن يُطبّق النقّادُ كذلك منهجَهم هذا على ملحمته الشعرية الألعوبة الإلاهية.
وأمّا في ميدان الحضارة العربية فنستطيع القولَ بأن كلَّ علوم اللغة العربية وربما كذلك كل علوم الثقافة الإسلامية قد نشأت في أول عهدها حول مسألة قراءة النص المُؤسِّسِ لهذه الحضارةِ وتأويلهِ ونعني القرآن الكريم، ووضع منهج علمي في التفسير.
ولقد بدأَ الجدلُ الفكري منذ العقد الخامس من القرن السابع الميلادي أي بعد مقتلِ الخليفةِ الثالث عثمان بن عفّان وانقسام الأمّة إلى أحزاب وشيعٍ يبذلُ أنصارُها كلَّ جهدهم لتبرير مواقفهم السياسيةِ تلك بآياتِ القرآن، وبنصوص الحديث يفسّرونَها ويُؤولونَها لدعم قضيتِهم أو لنقضِ دعاوى الخصمِ.
ثم ظهرت مع اتساع رقعة الدولة العربية ودخول أمم أخرى ذات لغات غير العربية وثقافات مختلفةٍ وانتشار الإسلام كدين للدولة الجديدة قضايا جديدةٌ ومسائل طريفة سُئِلَ النصُ القرآني عن إجابة لها وظهرت مذاهب في تأويل القرآن عديدةٌ تعتمدُ على أسس فكرية وطرق علميةٍ مختلفةٍ.
فكان ما أسمي بالتفسير بالمأثور. وأجلُّها تفسيرُ ابن جرير الطبري (839-923)، جامع البيان في تفسير القرآن. وقد عرض فيه لأقوال الصحابة وآرائهم وذكر بعض وجوه الإعراب والقواعد لتعزيز هذا التأويلِ أو ذاك ولتفضيل هذه القراءة على غيرها. ومن التفاسير بالمأثور تفسير ابن كثير، في القرن الرابع عشر وكتاب السيوطي (1407-1475)، الدرِ المنثورِ في التفسير بالمأثور.
وكان ما أسمي بالتفسير بالرأي. وقد أثار جدلاً شديداً بين العلماء فمنهم من حرّمه ومنهم من جوّزه. ولكن اختلافهم كان يقوم في الحقيقة حول شروط القراءة والقواعد التي ينبغي الأخذ بها حين التأويل وليس حول مشروعية تعدد قراءات القرآن الكريم. ولقد يستطيع القارئُ الراغبُ في معرفةِ هذا الجدلِ وبمختلف شروط النهج التي لابد منها لقبول التفسير بالرأي أن يعود إلى مؤلّف قاضي دمشق بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي (1344-1391)، البرهان في علوم القرآن (1) وأشهر التفاسير التي تتوافر فيها تلك الشروط تفسيرُ فخر الدين الرازي (1149-1209)، المسمى مفاتيح الغيب والمشهور بالتفسير الكبير، وتفسيرُ عبد الله بن عمر البيضاوي (توفي نحو 1282)، المسمى أنوار التنزيل وأسرار التأويل.
وظهرت تفاسير للقرآن تدافع عن الفرق الإسلامية وتنتصر لها وتعتمد في تأويلها للنص المُؤسِّس على مقدمات فكرية أو فلسفية مختلفة عن التفاسير التي سبق ذكرُها. من ذلك تفاسير المعتزلة والمتصوّفة والباطنية وغيرها. فقام تأويل المعتزلة على المذهب الكلامي وحسب مسلّمتهم الفكرية: الحسنُ ما يستحسنُهُ العقلُ والقبيحُ ما يستقبحهُ العقلُ. ولم يعتمدوا إلاّ نادراً النصوصَ النبوية في أدواتهم لشرح معاني الآيات. وخيرُ ممثّل لهذه النزعة العقلية في القراءة محمود بن عمر جار الله الزمخشري (1075-1144)، في كتابه الكشّاف عن حقائق التنزيل.
ويغلب على تفسير المتصوّفة التعقيدُ والإحالةُ إلى أنظمةٍ معرفيةٍ أخرى لتأويل النص القرآني. ذلك ممّا يجعل كلامهم غامضاً إلاّ على المشتغلِ بالشؤونِ الروحية والذي تعلم أساليب المتصوفة ومرن عليها. وأشهر التفاسير التي من هذا النوع كتاب التفسير المنسوب إلى الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي الأندلسي (1165-1240)، وهو في حقيقة الأمر من تأليف كمال الدين أبو الغنائم الكاشي (توفي 1329).
ومذهبٌ آخر في قراءة النصّ الكريم هو ما يسمى بالتأويل الإشاري. وفيه تؤوّل الآيات على غير ظاهرها مع محاولة الجمع بين الظاهر والباطن. أي أن المفسِّرَ يوردُ تفسيرَ الآيات حسب ظاهر الحرف ثم يشير إلى ما يعتبره معاني خفيةً يستنبطُها بطريق الرمز والإشارة. ومن ذلك تفسير الألوسي روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني.
وهناك تفاسير الباطنية وهم يقتصرون على الأخذ بما يعتبرونه باطن القرآن ويهملون ظاهرَهُ أي بنيته القواعدية ونظامَهُ الصرفي.. ولكلٍ من هذه المذاهب طريقته في التأويل. ولكل طريقةٍ في التأويل قواعدها العلمية ومسلماتها النظرية أي ترابط وتماسك داخليان تقوم بهما ويفسران نتائجها. وهي تشير جميعها، وبغض النظر عن الصراعات التي نشأت بين أنصار كلٍّ منها وعن الأحكام التي أطلقها بعضُهم على بعضهم الآخر، إلى وعي العرب المسلمين بتعدد مستويات القراءة في القرآن الكريم أي إلى وجود قراءات عديدة لذاتِ النص الواحد.(2).
وبطبيعة الحال فإن هذا الوعي لم يتوقف عند علوم قراءة الكتاب التأسيسيَ ولا عند العلوم الدينية التي ظهرت بفضلّها. ونحن واجدون، ومنذ منتصف القرن الثامن، نصّاً يشير بوضوح قاطع إلى وعي تعدد القراءات في النصوص الأدبية وإلى ضرورة أخذها بعين الاعتبار حين تحليلها. ففي مقدّمة عبد الله بن المقفع (724-759)، لكتابه كليلة ودمنة والتي اقتبسنا منها مقاطع في الفصلِ الثالث من كتابنا هذا يطالب الكاتبُ قارئه بأن يديم النظرَ في كتابه وأن يلتمسَ معاني خبيئةً خلف المعاني الظاهرة وأن يغوصَ إلى ما وراءَ سطح المعنى المباشر التماساً لجواهر المعاني. ويُحذّرُهُ من قراءة متوحّدة إذا حسب أن غايتَه من الكتاب هي الإخبارُ عن حيلة بهيمتين أو محاورة سبع لثور. ثم يبسط ابن المقفّع لقارئه مستويات التأويل التي يراها في نصّه فيقول:
"وينبغي للناظر في هذا الكتاب ومُقتنيه أن يعلمَ أنه ينقسم إلى أربعة أقسام وأغراضِ: أحدهما ما قصد من وضعه على ألسنة البهائم ليتسارع إلى قراءته أهلُ الهزل من الشبان فيستميلَ به قلوبَهم [ ] والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوفِ الألوان والأصباغِ ليكون أنساً لقلوب الملوكِ.[ ] والثالثُ أن يكون على هذه الصفة فيتخذهُ الملوكُ والسوقةُ فيكثر بذلك انتساخُهُ وينتفع بذلك المصوّر والناسخ أبداً. والغرض الرابع وهو الأقصى وذلك يخص الفيلسوف خاصةً أعني الوقوف على أسرار معاني الكتاب الباطنة"(3).
وهذه الأمثلة من ثقافات متباينة وعصورٍ مختلفةٍ توضح أن مسألة تعدد التأويل النظريةَ هي من بنية النص المكتوب ذاته وأن القراءةَ لم تكن لتستطيع الاكتفاء بمعنى واحد ضيق ومحصور في النص الأدبي.
1 ـ 1 ـ تعدّد الأصوات:
هناك إذن عدّةُ مستوياتٍ في قراءةِ النصِّ الأدبي أو عدّةُ أصواتٍ في النصِّ الأدبي الواحد..!..
كيف يُمكننا أن نشرحَ هذه الحقيقةَ التي يقبلُها جميعُ النقّاد اليوم؟
إننا نشرحُها ببنيةِ النصِّ الداخليِّةِ أولاً. فنحن نعرفُ أن الخطابَ الجمالي وعلى الأخص الشعر منه يفضّلُ المبنى على المعنى أي أنّه يعطي الأسبقيةَ لظاهرِ العلامة الصوتية ولجمالِها الموسيقي أو الشكلي. أي أنّه مضطرٌ للغموض والإبهام. وبتعبيرٍ آخر لأن المبنى يفرض نفسَه على حساب المعنى ولأن الشكلَ يطغى على المضمون فإن الأدبَ يلدُ معانيَ غامضةً وأفكاراً مضطربةً!...
وبما أنّ النصَّ الأدبيَّ يُنَظِّم المفرداتِ حسب جماليتها ويفرضُ عليها سياقَه الخاص فإن المفردات تنفصلُ عن معانيها الأصليةِ الأولى وتبتعدُ عنها مسافةً قد تضيقُ أو تعرضُ. وفي هذه المسافةِ التي يُحرِّرُها الهاجسُ الجمالي تفقد المعاني حدودَها الصارِمةَ وتتداخلُ ببعضها ويتأثرُ بعضهُا ببعضها الآخر فتتولّدُ معانٍ جديدةٌ وتتعدّدُ إمكانيات التأويل. إنّ الخطاب الشعريَ خاصةً يسمحُ للألفاظِ أن تهتزَّ، وأن تموجَ وتتحركَ في حريّةٍ وطلاقةٍ، وعندما يفعل ذلك فإن اللفظ لا يستدعي إلى الخاطرِ المعاني الجانبيّةَ والإضافيةَ المرتبطةَ بمعناه المباشر أو الشائعِ وحسب، ولكنّه قد يقترح معاني أخرى مختلفةً أو يوحي بصورٍ جديدةٍ لم يألفها القارئُ. الخ... وكلّنا يعرف بيتَ المتنبي (915-965)، الشهيرَ الذي قذفه متحدِّياً في وجوهِ نقّادٍ كانوا يأخذون عليه غموضَ شعرِهِ أو التباسَ معانيهِ:
أنامُ ملءَ جفوني عن شواردها
ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصِمُ
(البحر البسيط)..
أليست شواردُها هذه هي موسيقى الكلمات وتناغِمِها في أذن الشاعر تفرض نفسَها عليه فيُطلقُها كما تجيئُهُ أوسع من معناها أو أقصرَ أو أبعد؟.. وبين هذه وتلك يَنتشر غموضُ الشعرِ وسحرهُ المبهمُ ولنذكر بيتَ الأعشى الأكبر التالي من لاميته المشهورة: ودّعْ هُريرةَ..
وقد غَدَوْتُ إلى الحانوتِ يَتبعُني
شاوٍ، مِشَلٌّ، شَلولٌ، شُلْشُلٌ، شَوِلُ
وأغلبُ ظني أن الشاعر الكبيرَ قد نظمَ عجزَ بيتِهِ على هذا النحو لعذوبةِ السلسلةِ الصوتية التي يحصلُ عليها بتراصفِ الشين واللام، وبسقوطِ أحرفِ المدِّ بينها، فأخذها عليه نقّادٌ يرون أن وضوح المعنى أجدر باهتمام الشاعرِ من رصفِ الكلمات.(4)..
وتقوى صفةُ تعدِّدِ التأويلِ هذه بتعدِّدِ الشبكاتِ الدلاليةِ التي تمتازُ بها أغلبُ النصوصِ الأدبيةِ فهذه تقيمُ في نفسِ الوقتِ شبكاتٍ دلاليةً متنوعةً وتسلك في ذات اللحظة سبلَ معانٍ متشعّبةً فتقودُ قارئها إلى سبلِ تأويلٍ متباينةٍ ومتكاملةٍ معاً وإلى استخلاص وحداتٍ معنويةٍ مختلفةٍ... ماهي الشبكةُ الدلاليةُ الأساسيةُ في كتاب كليلة ودمنة؟ تربيةُ السلطانِ أم تسليةُ العوام؟ مباهاةُ العربِ بتراثِ الفرسِ وإعلاءُ حزبِ الشعوبيةِ المتعاظِمِ بعد سقوط الأمويين أم مساهمةً لوجهِ الله في إغناءِ أدبٍ بنوعٍ يجهلُهُ بعدُ؟ الخ... كيف نحدِّدُ كتابَ حي بن يقظان لابن طُفيْل (توفي 1185)؟ حكايةٌ رمزيةٌ عن الخُلقِ والخليقةِ أم قصةٌ فلسفيةٌ إشراقيةٌ ذات نزعةٍ أفلاطونيةٍ مستحدثة؟ تمثيلٌ للمخلوقِ يبلغُ ميدانَ الحكمةِ بقوة العقلِ أم وصفٌ لتخبِّط الإنسان في ميدان الواقع والمادة؟ كيف نُؤوّل بقيةَ العنوان أسرار الحكمة الإشراقية؟ أهي روايةٌ باطنيةٌ؟ ما غرضُ كتاب الحيوان الأساسي؟ دراسةٌ علميةٌ للعالم الحيواني أم محاولةٌ للاستدلال على عظمة الخالق بدراسة المخلوقات؟..
إنّ أهميةَ النصِّ الأدبي تقوم بالضبط على أنه يستحيلُ علينا أن نأخذَ بقراءةٍ دون غيرِها أو أن نُعلنَ شرعيةَ تأويلٍ وإنكار سواه..
1 ـ 2 ـ نصوص تُنسخُ ونصوص تُقرأ!
إذا كانت القراءةُ تميل إلى مُضاعفةِ المعاني فإن طبيعةَ مستوياتِ هذه المعاني وعددَها يختلفان حسب طبيعةِ النصوصِ، فليس لكلِّ النصوص ذاتُ العدد من المستويات. ولقد ميّز بعضُ النقّاد بين النصوص التي يُمكن "نسخُها" وتلك التي تُمكن "قراءتُها".. والنصوصُ الأولى هي نصوصٌ يمكن أن "ينسخها" القارئُ أي أن يؤوِّلها عدداً لا ينتهي من المرّات. أي أنّه "يكتبُها". من جديدٍ كل مرةٍ يأخذُ فيها الكتابَ بين يديْه... والنصوصُ الأخرى هي تلك التي تتضمّنُ عدداً محصوراً من القراءاتِ. أيْ أنَّ التحليلَ الأدبيَّ يكشفُ عن شبكاتِ المعاني التي ينظمها النص فينسِّقُها ويُحصيها في قراءاتٍ محدودة. وعليه فإنَّ هناك نصوصاً ما يزالُ القارئُ العربي عاجزاً عن الإحاطة بكل معانيها بسبب ما أُخْضِعَت إليه لُغتُها من جهدٍ وصنعةٍ وبسبب موهبةِ شاعرِها المطبوع. وما يزالُ النقدُ يكتشفُ فيها شبكاتٍ دلاليةً طريفة ومعانيَ جديدةً... ونحن نضعُ بين هؤلاء أبا تمّام (788-845)، والمتبني والأقوالَ المنسوبةَ إلى الجُنَيد (توفي 910)، والنفّري (توفي 965)، الخ... وهناك نصوصٌ كنصوص بشّار (696 ـ 783)، وأبي العتاهية (748-826)، وأبي نُواس (762-813).. وأغلب النصوصِ الأدبيّةِ المدرسيّةِ التي تتقبلُ قراءات متنوعةٍ ولكن محصورة العدد.
ومهما يكن الأمرُ وسواء كان النصُّ الأدبيُّ "نسخياً" أو "قرائياً".. فإنه دائماً وبسبب بنيتِه متعددُ المعاني ومتعددُ الأصوات، وهذه التعددية التي تظهرُ لنا عند القراءةِ هي التي تحدَّد النصَ على أنه أدبيٌّ.
انتقاء محب العلماء
من كتاب .نظريات القراءة والتأويل الأدبي وقضاياها - دكتور حسن مصطفى سحلول
دراسة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001
محب العلماء- عضو ممتاز
- عدد المساهمات : 226
نقاط : 6006
تاريخ التسجيل : 07/02/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأربعاء 20 ديسمبر 2023, 10:55 من طرف مدير المنتدى
» العدد الثالث من مجلة " آفاق علمية "
الأحد 01 أغسطس 2021, 10:21 من طرف Houcine22
» الشاعر منتميا وملتزما
الأحد 14 أكتوبر 2018, 20:12 من طرف مدير المنتدى
» العرب وكرة القدم
الإثنين 02 يوليو 2018, 20:10 من طرف مدير المنتدى
» الخامس من يوليو (جويلية) مجددا
الإثنين 02 يوليو 2018, 19:42 من طرف مدير المنتدى
» أهلا بشهر التوبة والغفران
الأربعاء 07 يونيو 2017, 11:21 من طرف أسير القافية
» لو عثرت بغلة في العراق ...
الجمعة 03 مارس 2017, 20:17 من طرف أسير القافية
» مسابقة الدخول إلى مدرسة الدكتوراه بتامنغست
الخميس 06 أكتوبر 2016, 16:21 من طرف أسير القافية
» وما بكم من نعمة فمن الله
الخميس 06 أكتوبر 2016, 15:58 من طرف أسير القافية