المواضيع الأخيرة
بحـث
سحابة الكلمات الدلالية
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
مدير المنتدى | ||||
أسير القافية | ||||
ونشريس | ||||
محب العلماء | ||||
هويدا | ||||
حمداوي عبد الرحمان بن قاس | ||||
شوقي نذير | ||||
الأصيل | ||||
تحيا الجزائر | ||||
عبدالله بن حامو |
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 33 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 33 زائر :: 2 عناكب الفهرسة في محركات البحثلا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 53 بتاريخ الأحد 14 أبريل 2019, 17:47
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 1352 عُضو.آخر عُضو مُسجل هو روفي فمرحباً به.
أعضاؤنا قدموا 3419 مساهمة في هذا المنتدى في 1524 موضوع
الحداثة الشعرية - انتقاء محب العلماء
صفحة 1 من اصل 1
الحداثة الشعرية - انتقاء محب العلماء
ا الحَداثة الشعريّة- انتقاء محب العلماء
محاولة في تعريف الحداثة الشعرية:
ليس الشعر ماهية. إنه نص محدد لشاعر محدد. ويحدد الشعري بلغته لا بفكريته. بمعنى أن هناك لغة توصف بأنها شعرية، مقابل لغة توصف بأنها غير شعرية. لكن هذا لا يعني أن اللغة خالية من الفكرية، وإنما اللغة في الشعر ليست كلمات تملأ بأفكار كما هي الحال في العلم أو النثر.
إن شعرية النص تتبدل حسب الأزمنة، والأمكنة: في شعرنا القديم كانت الشعرية وصفية. فالشعر عندهم هو الكلام الموزون المقفى الدال على معنى. وهذا ما تجاوزته الممارسة الشعرية العربية الحديثة. هنالك نصوص موزونة مقفاة، ومع ذلك فهي ليست شعراً. أسس هذا الناقد الجرجاني الذي يرى أن شعرية النص لا تجيء من الوزن والقافية بالضرورة. وإنما من ما سماه بطريقة النظم، أو النسق الذي تأخذه الكلمات في السياق. ولتوضيح ذلك ينبغي التمييز بين معنيين: عقلي، وتخييلي. فالأول ثابت وصريح، "وليس للشعر في جوهره وذاته نصيب"، كما يرى الجرجاني. ومثاله ليس في الشعر القديم وحده، بل وفي معظم النتاج الشعري "الحديث". وفي مقدمته نتاج شوقي، وحافظ وسواهما. والثاني "لا يمكن أن يقال أنه صدق، وأن ما أثبته ثابت. وما نفاه منفي. وإنه مفتن المذاهب، كثير المسالك، لا يكاد يحصر إلا تقريباً. ولا يحاط به تقسيماً وتبويباً". كما يرى الجرجاني أيضاً. وهذا يعني أن الواقع بوقائعه وحقائقه الثابتة ليس مقياساً لصدق الشعر، وليس التطابق معه معياراً للشعرية وجودتها.
فللشعر واقع آخر غير الواقع العيني، الجاهز، المباشر. وإنه لا يمكن وضع تعريفات نهائية للشعر، لأنه ليس ثابتاً، فهو حركة مستمرة من الإبداع المستمر. وهو يأتي من أفق لا ينتهي، ويتجه إلى أفق لا ينتهي(1).
وفي الشعر المسمى "حديثاً" ما تزال الخطابة نموذج البلاغة الأرقى. والأكثر فاعلية. ولئن تراجع –بفعل الظروف- فقد بقي مثالاً في الذاكرة. ومن هنا نشأت الضرورة لمحاكاة هذا المثال في فنون القول الأخرى، وفي طليعتها الشعر. وقد كان الخطيب، في الجاهلية، سيد القبيلة وحكيمها. فالخطابة مرتبطة –إذن- بالسيادة والسياسة. وفي الإسلام أضيف ارتباط الدين.
ومن هنا كان الخطيب يمثل "النظام". وتعبيره يمثل "لغة النظام" من حيث هي أداة التعبير عن الأغراض الجماعية والآراء العامة، على النقيض من الشعر الذي كان ينحرف أحياناً عن هذه إلى التعبير عن الأغراض الذاتية والانفعالات الشخصية، خصوصاً أن الشعراء لم يكونوا بعامة من الأسياد والحكماء، بل كانوا من "عامة" الناس إجمالاً، وفي هذا ما يفسر انحدار الشعر إلى الابتذال والتكسب والهجاء الذي ينال من الحرمات والأعراض. وفيه ما يفسر أيضاً تقديم الخطابة على الشعر، في العهد الإسلامي الأول، لحاجة المسلمين إليها في الدفاع عن الدين الجديد، والتبشير به، وجمع الآراء حوله. وفي هذا، إلى أن ذلك، ما يفسر تحول الشعر، في العهد الإسلامي الأول، إلى خطابة، أي على أن يتبع منهجاً خطابياً. فالشعر الديني والسياسي مثلاً كان خطابياً يقوم على الارتجال والجدل وهجاء الخصم ومدح الصديق، كان حماسياً، تبشيرياً، يعكس العقيدة، ويهدف إلى الإقناع، ومن هنا يمكن تسميته بالخطابة الموزونة المقفاة(2).
ولا يعود انتشار الشعر إلى أوليته على الخطابة، نوعياً، وإنما يعود إلى أسباب موضوعية:
الأمية وانعدام الكتابة، وإمكان الذاكرة أن تستوعبه وتحفظه أكثر مما تستوعب الخطب وتحفظها. وفي هذا الصدد يؤكد النقاد العرب: "إن ما تكلمت به العرب من جيد المنثور ومزدوج الكلام أكثر مما تكلمت به من الموزون، إلا أنه لم يحفظ من المنثور عشره. ولا ضاع من الموزون عشره"(3).
هكذا رسموا للشعر نمطاً وظيفياً يقوم على سمات موضوعية معينة. سواء في المدح أو الرثاء أو الهجاء أو غيرها. وقوام هذا النمط الوظيفي التأثيري في السامع، في مناخ من البديهة والارتجال والإيجاز. أي من الوضوح والدقة والمباشرة.
وكما تغيرت البنى العربية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً حين أخذ العرب يعيشون في مناخ حضاري جديد، فإنه كان لا بد أن تتغير البنية الأدبية أيضاً. هكذا حدث تحول كبير في الشعر: لم يعد السامع عنصراً أساسياً فيه كما كان في الخطابة، ولم يعد الموضوع عنصراً أساسياً فيه كما كان في الخطابة. صار القائل العنصر الأساسي في القول. وهذا يعني أن خطاً فاصلاً بدأ يرتسم انفصالاً عن المحاكاة والمشابهة بحيث أخذ الشاعر يحدث شعره الخاص. دون لجوء إلى معيار خارجي، أي دون اللجوء إلى المعيار القديم الموروث. لقد حلت الكتابة محل الخطابة، وحلت القراءة محل السماع. ومثل هذه النقلة وهذا التحول الكبير لم يحدث فجأة، ودون سابق إنذار، وإنما مهدت له التطورات والتجديدات الكمية التي تحولت، فيما بعد، إلى تحول نوعي، فلم يعد الشعر، في الكتابة الجديدة، يخاطب الأذن والحواس، بل أصبح يخاطب الفكر عن طريق العين. وأصبحت الكتابة نصاً ماثلاً للتأمل. ليست محاكاة وائتلافاً، بل هي اختلاف وإبداع. لم يعد القارئ يطلب من الشاعر أن يعيد إنتاج ما أنتجه الشعراء السابقون إي إنتاج الماضي أو القديم. وإنما يطلب منه أن يبدع شيئاً جديداً، رؤيا للعالم، وطريقة تعبير جديدة. ولأن القراءة على مستويات عديدة، تبعاً للقراء. فلا يمكن أن يصل قارئ النص الإبداعي إلى القبض على "حقيقة" النص النهائية. فلهذه "الحقيقة" مستوياتها، العديدة، وبهذا فإن القارئ يخلق النص. إنه خلاق آخر يواكب خالق النص. والنص الإبداعي –بهذا المعنى- هو أفق من الدلالات. وليس "مكاناً" لمجموعة من الأفكار.
ويدعو أدونيس إلى خلق حساسية شعرية جديدة، وتذوق جديد، وفهم جديد. ومعنى ذلك في الشعر أن نتجاوز طرائق التعبير التقليدية، ومقاييس النقد القديمة، والشفوية الخطابية، وتجاوز الأنواع الأدبية القديمة، من أجل تأسيس نوع جديد من التعبير، بحيث تصبح القصيدة مثلاً كتابة جديدة. ليست وزناً بالضرورة، وليست لا وزناً بالضرورة. وإنما هي إيقاع وزني نثري. أو نثري وزني. وهكذا تصبح القصيدة شكلاً مفتوحاً. وهذا يعني تجاوز مفهوم الشعر كما ورثناه. وتحديد جديد للشعر(4).
***
هكذا ننتقل عن علم جمال الخطابة إلى علم جمال الكتابة. ويحدد أدونيس ملامح علم جمال الكتابة في الأمور التالية: (5).
أولاً- التفكير في المعروف والتعبير عنه هو جوهر نظرية الشعر الموروث، بينما الإبداع دخول في المجهول لا في المعلوم، وأن نبدع هو أن نكتب ونخرج ما كتبناه من الماضي لندخل إلى الحاضر.
ثانياً- ينبغي أن تتغير الحدود التي كانت تقسم الكتابة إلى أنواع. في الكتابة الجديدة نوع واحد هو الكتابة. لا نعود نلتمس معيار التمييز في نوعية المكتوب: هل هو قصيدة؟ أم قصة؟ مسرحية أم رواية؟. وإنما نلتمسه في درجة حضوره الإبداعي.
ثالثاً- ليس التراث ما يصنعك بل ما تصنعه. ليس الماضي كل ما مضى. الماضي نقطة مضيعة شاسعة. فإن ترتبط، كمبدع، بالماضي هو أن تبحث عن هذه النقطة المضيئة. والوفاء لغير هذا البحث وفاء لسقوط مسبق، وليست الثقافة استعادة، وإنما هي ابتكار.
رابعاً- جوهر القصيدة في اختلافها، لا في ائتلافها. وليست القصيدة جواباً، بل هي سؤال ضمن السؤال، ليس للشعر تخوم، لذلك ليست المسألة أن نفهمه، بل أن نتأمل في أبعاده. ليست أن نستوعبه، بل أن نواكبه. هكذا لم يعد جائزاً أن نقرأ القصيدة خطياً، سطراً سطراً، وإنما يجب أن نقرأها كائناً نقرأ فضاء.
خامساً- ليس الشكل عند الشاعر الجديد، في الكتابة الجديدة، صيغة كتابة، وإنما هو صيغة وجود، أي وعد ببداية جديدة، ومن هنا لا ينطلق الشاعر الجديد من أولانية شكلية، بل من أولانية اللا شكل، بهذا يتحرر من المكتسب، المتعلم، الاصطلاحي. يتحرر من أن يمارس ما مورس، يخلص من تصنيفه داخل الثقافة الموروثة، يتحرك وفي أعماقه طموح لا إلى أن يتعلم القيم السائدة بل إلى أن يخلق القيم الجديدة.
والدعوة إلى تأسيس كتابة جديدة هي، كذلك، دعوة إلى تثوير الكتابة الشعرية، جذرياً، ومعنى هذه الثورة الشعرية أن المسألة في تجديد الشعر ليست في تغيير شكله وحسب، أو في تغيير محتواه وحسب، وإنما هي أيضاً. وقبل ذلك، في تغيير معناه بالذات، وبالتالي في تغيير النظرة إليه وطريقة فهمه.
***
وتستند الحركة الشعرية الجديدة إلى الأسس التالية: (6)
أولاً- التمرد على الذهنية التقليدية، فلا يتم التجديد بالعودة إلى التقليد، أو بالتلاؤم مع أشكاله الشعرية، بل إن في ذلك انفصالاً عن الحاضر. والتقليد ثبات، والحياة حركة.
فمن يبقى في التقليد يبقى خارج الحياة، وكما أن الأمانة للتقليد نفي للحياة، فإن الأمانة لأشكاله وأساليبه الشعرية نفي للشعر. وكم يتحتم على هذا التمرد أن يكون جذرياً وفذاً، إذا تذكرنا أن التقليد في بلادنا ليس مجرد إيمان واقتناع، وإنما هو نظام حياة، ونظام فهم للحياة.
ولا شك أن التمرد على الذهنية التقليدية يعني تخطي المفهوم القديم للشعر العربي، وتخطي ما فيه من قيم وثبات. ولكن هذا لا يعني ازدراء الماضي، أو انقطاعاً عن التراث، وإنما هو استجابة للوضع الحضاري الراهن. فمن البداهة أن الشاعر العربي المعاصر لا يكتب في فراغ، بل يكتب ووراءه الماضي، وأمامه المستقبل. فهو ضمن تراثه، ومرتبط به. ولكن هذا الارتباط ليس محاكاة للأساليب والنماذج التقليدية، وليس تمشياً معها، ولا بقاء ضمن قواعدها ومناخها الثقافي –الفني- الروحي. فليس التراث عادة في الكتابة، أو في موضوعات طرقت ومشاعر عونيت وعبر عنها، وإنما هو طاقة معرفة، وحيوية خلق، وذكرى في القلب والروح.
وللارتباط بالتراث معنيان: أولهما، إذا كان يتحتم على شعرنا المعاصر، لكي يكون جديداً حقاً، أن يقبض على لحظته الزمنية الحضارية، ويصدر عنها، فلا يكون إعادة أو اجتراراً أو أي نوع من أنواع الخضوع للتقليد، فإن الارتباط بالتراث يكون ارتباط خلق وإضافة واستباق.
وثانيهما، إذا كان من غير الجائز، شعرياً، أن نحكم على الحاضر بمقاييس الماضي، فذلك يعني أن هناك نوعاً آخر من الارتباط بالتراث، هو ارتباط التقابل والتوازي والتضاد. إن الشاعر يظل ضمن تراثه مرتبطاً به. وإن كان غير منسجم مع معطياته التقليدية أو متناقضاً معها، فليس التراث الحي خيطاً وحيد اللون، أو صوتاً يكرر نفسه، بل هو قوى متنوعة ومتناقضة، تنوع الحياة وتناقضها. يقول أدونيس: إننا بقدر ما نحن بعيدون تاريخياً وحضارياً عن أبي نواس مثلاً، قريبون منه. لكن يبقى لنا وجودنا الخاص، وتجربتنا الخاصة. وبقدر ما ينبغي أن نعي صلتنا به، علينا أن نعي انفصالنا عنه. إن للأثر الشعري وجوداً بحد ذاته، مستقلاً عن أشكال الوجود التي صدر عنها. وإذا كان هذا الاستقلال قائماً بالنسبة إلى الحاضر، فكم هو بالأحرى ضروري أن يكون قائماً بالنسبة إلى الماضي.
إن رفض التقليد، والذي بدأ يتغلغل في الثقافة العربية، ويوجد الحركة الشعرية الجديدة. ليس مجرد كلام سهل، بل هو فعل خلاق. صحيح أنه يولد الغموض والفوضى، ويثير الشكوك والتناقض، إلا أنه، في الوقت ذاته، علامة الحيوية والوضوح، ودليل التحول وولادة الرؤيا الجديدة، ولا يستطيع الشاعر أن يبني مفهوماً شعرياً جديداً إلا إذا عاش أولاً في داخله انهيار المفهومات السابقة، ولا يستطيع أن يجدد الحياة والفكر إذا لم يكن عاش التجدد.
ثانياً- التعبير عن المرحلة الحضارية المعاصرة، فالثقافة العربية التي سادت هي في جوهرها ثقافة دينية. وتاريخ الفكر العربي يرينا إلى أي حد كانت السيطرة الدينية قوية وحاسمة على المفكرين والفلاسفة، مما اضطرهم إلى التوفيق بين العدل والدين. والثقافة العربية السائدة عالم مغلق. والعربي مرتبط من الناحية الثقافية بقيم ثابتة تعتبر صالحة لكل زمان ومكان. وفي هذا تناقض فاجع يعيشه العربي.
ولا بد للشاعر العربي المعاصر من أن يتخطى قيم الثبات في تراثه الشعري القديم بخاصة، وفي تراثه الثقافي بعامة، لكي يقدر أن يبدع شعراً في مستوى اللحظة الحضارية التي يعيشها.
وكما أنه من الطبيعي أيضاً أن لا يرى تراثه في أشكال التعبير الشعري قيماً نهائية. فمن الطبيعي أيضاً أن ينظر إلى تراثه الحضاري من هذه الزاوية. وهكذا يصبح التراث العربي: شعراً، وثقافة جزءاً من الحضارة الإنسانية. ولا يلتمس الشاعر العربي المعاصر ينابيعه في تراثه وحده، بل في الكل الحضاري الشامل.
ثالثاً- القصيدة العربية القديمة مجموعة أبيات، أي مجموعة وحدات مستقلة متكررة لا يربط بينهما نظام داخلي، وإنما تربط بينها القافية. وهي قائمة على الوزن، والإيجاز.
وفي مقابل هذه القصيدة العربية القديمة التي ما تزال مستمرة، بشكل أو بآخر حتى اليوم. تنهض القصيدة الجديدة. وإذا أردنا أن نقارن بينهما نجد أن الأولى إذ تقوم على وحدة البيت المتكرر المستقل، وعلى القافية التي تنظم هذه الوحدة المتكررة، وإذ تلتمس جماليتها، بالتالي، في جمالية البيت المفرد، فإن القصيدة الجديدة هي وحدة متماسكة، حية، متنوعة.
وهي تنقد ككل لا يتجزأ، شكلاً ومضموناً. والقصيدة القديمة صناعة ومعان، بينما القصيدة الجديدة تجربة متميزة. والقصيدة القديمة لغة ذوق عام وقواعد نحوية وبيانية، بينما القصيدة الجديدة لغة شخصية. ولا ضير في تكرار المعاني بالنسبة للقصيدة القديمة، في حين أن الفرادة وجدة الرؤيا من أهم عناصر القصيدة الجديدة. والقصيدة القديمة قائمة على الوزن السهل، المحدد، المفروض من خارج، بينما تقوم القصيدة الجديدة على الإيقاع النابع من داخل. لذلك فهو ابتكار، ويتطلب استخدامه قوة وبراعة وموهبة أكثر مما يتطلب استخدام الوزن. وهناك شكل واحد في القصائد القديمة كلها. بينما لكل قصيدة جديدة شكلها الخاص، نثراً أو وزناً، أو نثراً ووزناً في آن. وفي حين لا يتطلب إدراك الشكل في القصيدة القديمة جهداً، فإن إدراكه في القصيدة الجديدة يتطلب وعياً شعرياً كبيراً. فهو يتناول معرفة الأجزاء في مادة القصيدة، وعلاقات هذه الأجزاء بعضها ببعض، وائتلافها فيما بينها، ووحدتها، ومن لا قدرة له على هذا الإدراك، لا يقدر أن يفهم القصيدة الجديدة.
رابعاً-التعبير الشعري جزء من الحالات النفسية والشعورية. والتعبير لغة. واللغة كائن حي يتجدد. وإذا كان الشعور الجديد يعبر عن نفسه تعبيراً جديداً، فإن هذا يعني أن له لغة متميزة خاصة. والتعبير الشعري انفعال وحساسية وتوتر ورؤيا، لا نحو وقواعد. ويعود جمال اللغة في الشعر إلى نظام المفردات وعلاقاتها. وهو نظام لا يتحكم فيه النحو، بل الانفعال أو التجربة. ومن هنا كانت لغة الشعر لغة إيحاءات على النقيض من لغة العلم التي هي لغة تحديدات. هكذا يؤمن الشاعر العربي الجديد أن على اللغة أن تساير تجربته بكل ما فيها من التناقض والغنى والتوتر. وهو في ذلك يفرغ الكلمة من شحنتها الموروثة التقليدية، ويملؤها بشحنة جديدة تخرجها من إطارها العادي ودلالتها الشائعة.
ولعل خير ما نعرف به الشعر الجديد هو أنه رؤيا. والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفهومات السائدة. إنها تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها. هكذا يبدو الشعر الجديد تمرداً على الأشكال الشعرية القديمة. فهو تجاوز وتخط يسايران تخطي عصرنا الحاضر وتجاوزه للعصور الماضية. أن نرى في الكون ما تحجبه عنا الالفة والعادة، أن نكتشف علائق خفية، وأن نستعمل لغة ومجموعة من المشاعر والتداعيات الملائمة للتعبير عن هذا كله. تلك هي بعض مهمات الشعر الجديد. وهذا هو امتيازه في الخروج من التقليدية. فقوام الشعر الجديد معنى خلاق توليدي، لا معنى سردي وصفي. إنه كما يقول الشاعر الفرنسي المعاصر رينيه شار: "الكشف عن عالم يظل أبداً في حاجة إلى الكشف".
ولذلك فإن من خصائصه أن يعبر عن قلق الإنسان، أبدياً. والشاعر الجديد، والحالة هذه، متفرد، متميز في الخلق، وفي مجال انهماكاته الخاصة كشاعر. وشعره مركز استقطاب لمشكلات كيانية يعانيها في حضارته وأمته، وفي نفسه هو بالذات.
هكذا يمكننا القول إن الشعر الجديد هو نوع من المعرفة التي لها قوانينها الخاصة في معزل عن قوانين العلم. إنه إحساس شامل بحضورنا. وهو دعوة لوضع معنى الظواهر من جديد، موضع البحث والتساؤل. وهو، لذلك، يصدر عن حساسية ميتافيزيائية، تحس الأشياء إحساساً كشفياً، الشعر الجديد، من هذه الوجهة، هو ميتافيزياء الكيان الإنساني.
من هنا يتجه الشعر الجديد إلى التخلي عن الأمور التالية:
أولاً-إنه يتخلى عن الحادثة. إذ إن هناك تنافراً بين الحادثة والشعر. فعلى الشاعر الحق أن يتناول من مظاهر العصر أكثرها ثباتاً وديمومة. ذلك أن الشعر العظيم يتجه نحو المستقبل. ثم إن الشعر أقل الفنون حاجة إلى الارتباط بالزمان والمكان، لأنه في غير حاجة إلى مواد محسوسة، ولا علاقة لنموه وموته بنمو المدنيات وموتها.
ثانياً- وإذ يتخلى الشعر الجديد عن الحادثة، يبطل أن يكون شعر "وقائع"، أو شعراً "واقعياً" بالمعنى الشائع لهذه الكلمة، أي الاقتراب من النثر العادي، واستخدام الكلمات وفقاً لدلالاتها المألوفة. وهذا نقيض للشعر الحق الذي يفرغ الكلمة من ثقلها العتيق المظلم، ويشحنها بدلالة جديدة غير مألوفة. هناك تناقض بين الشعر و "الواقعية" كما يفهمها بعض شعرائنا المعاصرين: فالشعر، بحسب هذه "الواقعية" يتناول أفكار وآراء شائعة، مسبقة، قاصراً دوره على نظمها، على تصنيفها وعرضها في إيقاعات. غير أن جوهر الشعر الجديد قائم على ما يتجاوز هذا النوع من "الواقعية". إنه يغير إيقاع "نقل" الواقع بإيقاع "إبداعه"، ويجد واقعاً أغنى وراء "وقائع" العالم. هكذا ينبغي على الشاعر المعاصر، لكي يكون جديداً حقاً، أن يتخلص من كل شيء مسبق، ومن الآراء المشتركة جميعاً، إن القصيدة العظيمة حركة، لا سكون وليس مقياس عظمتها في مدى عكسها أو تصويرها لمختلف الأشياء والمظاهر "الواقعية"، بل مدى إسهامها بإضافة جديد ما إلى هذا العالم.
ثالثاً- ويتخلى الشعر الجديد، أيضاً، عن الجزئية، فلا يمكن الشعر أن يكون عظيماً إلا إذا لمحنا وراءه رؤيا للعالم. لا يجوز أن تكون هذه الرؤيا منطقية، أو أن تكشف عن رغبة مباشرة في الإصلاح، أو أن تكون عرضاً لأيديولوجية ما، رغم أن الشعر الجديد متداخل مع جميع حقول الفكر. إن الشعر –الأغنية، الشعر الوقائع الصغيرة، الشعر- الوصف، نقيض للشعر بمعناه الجديد من حيث أنه لا يقوم على كلية التجربة الإنسانية. ولعل أهزل الآثار الشعرية، بالمقياس الجديد، هي غالباً الآثار التي لا تكشف إلا عقد الشاعر أو ظروفه الاجتماعية الشخصية، فالأثر الشعري الذي لا يكون بالنسبة للشاعر وللقارئ إلا شكلاً من أشكال "المديح" أو "الهجاء" هو، في الحقيقة، كما يقول (مالرو) ضد الشعر. ومن المؤكد أن الشاعر يعاني أزمات نفسية ويحس بوطأة آلامها. إلا أن معجزة الشعر هي، على وجه الدقة، أن لا يعكس هذه المعطيات وحسب، بل أن يتجاوزها. ليس الأثر الشعري انعكاساً، بل هو فتح. وليس الشعر رسماً، بل هو خلق. هكذا يمكن الكلام على العاطفة والانفعال الشعريين، شريطة أن لا نعني بهما، لحظة ذاتية جزئية، كما كانا في معظم الشعر العربي التقليدي، بل أن نعني بهما شرطاً لاكتشاف جوهري، بحيث أن العاطفة تصبح ذاتية وموضوعية، فردية وكونية في آن.
رابعاً- ويتخلى الشعر الجديد عن الرؤية الأفقية، ففي معظم شعرنا المعاصر والقديم، تبدو الحياة مشهداً، أو ريفاً، أو نزهة. فهو ينظر إلى الأشياء باعتبارها أشكالاً، أو وظائف.
ولذلك تبدو فيه العلاقة بين الإنسان والعالم علاقة شكلية. كان بعضهم يحاولون عن طريق الإحكام البلاغي أن يتغلبوا على أفقية الرؤية، فيغرقون في شعر يتمترس وراء "بستان" الألفاظ، ويتغطى بزخارفها، فتركوا لنا القصيدة- اللعبة، أو القصيدة- الحلية، وحاول بعضهم الآخر أن يتغلبوا على هذه الأفقية بكابوس من "التشبيهات" أو "الأفكار" التي تتزاحم للجري وراء الواقع والحياة. وأن "نصور" أو "نفكر" في الشعر يعني أن نجعل العالم قابلاً لأن يدركه "الحس" أو "العقل" ولكننا نظل هنا في سطح العالم. وبالشعر الجديد نتجاوز السطح لنغوص في الأشياء وراء ظواهرها، حيث يمكننا أن نرى العالم في حيويته وبكارته وطاقاته على التجدد، وأن نتحد معه. لا تبحث في القصيدة الجديدة عن الصورة أو الفكرة بحد ذاتها، بل عن الكون الشعري فيها، وعن صلتها بالإنسان ووضعه. وحاول بعضهم الآخر أن يعطوا هذه الأفقية بعداً رومانسياً، ولكن شعرهم ظل وصفياً في جوهره، لأن الكلمة فيه تفرغ من شحنتها لحظة النطق بها، فهي لا تشع، وغير موحية.
خامساً- ويتخلى الشعر الجديد عن التفكك البنائي، فنحن نرى في معظم القصائد المعاصرة تشققاً في هيكلها ووحدتها. هناك "مضمونات" قد تعد حديثة، تاريخياً، ولكن التعبير عنها تعبير قديم، يقوم على الخطابية، خطابية الفكرة حيناً، وخطابية العاطفة حيناً آخر، وعلى التركيب المباشر، وعلى الأوصاف والنعوت والاستعارات التي تخلى عنها الشعر الجديد، واستعاض عنها بالصورة التركيبية: الصورة- الرمز، أو الصورة- الشيء. وهناك أساليب حديثة، تاريخياً، إلا أن مضموناتها قديمة، لأنها في ذروة ما توصف به "مدح" ناجح، أو "هجاء" ناجح، أو "رثاء" ناجح.
***
ونصل الآن إلى السؤال الأساسي: ما حقيقة الحداثة؟.
وليس الجواب سهلاً. فالحداثة، في المجتمع العربي، إشكالية معقدة، لا من حيث علاقاته بالغرب فحسب، بل من حيث تاريخه الخاص أيضاً. والواقع أن الحداثة الشعرية العربية لا تقيم إلا بمقاييس مستمدة من إشكالية القديم والمحدث في التراث العربي، ومن التطور الحضاري العربي، ومن الصراع المتعدد الوجوه والمستويات الذي يخوضه العرب اليوم.
لقد حاول الشاعر ستيفن سبندر في كتابه (نضال الحديث) أن يضع حدوداً مميزة للحداثة، وأخرى للمعاصرة. وأن يضبط هذين المصطلحين ضبطاً تاماً. فوصل إلى أن الحداثة مسألة تتعلق بالشكل والتقنية. أما المعاصرة فهي مفهوم سياسي بالدرجة الأولى. ولا ريب في هذا التمييز هو اجتهاد شخصي.
وفي ثقافتنا العربية المعاصرة تختلط مفاهيم عديدة في موضوع الحداثة، من مثل: التجريب، والتجديد، والتحديث، والطليعية، والمعاصرة، والتجاوز... الخ. وما ينبغي هو ضبط هذه المصطلحات جميعاً، والتمييز بين كونها مفاهيم زمنية، أو مفاهيم قيمية.
(التجريب، والحداثة) مصطلحان نقديان محايدان، ولا يمكن أن يكونا قيمتين إيجابيتين مطلقتين في حد ذاتهما. وبعبارة أخرى فإن هناك تجريباً يخفق في تحقيق قيمة إيجابية مقابل تجريب آخر يحقق نجاحاً ويثبت قيماً فنية جديدة. ولا ريب أن هذا المعنى للتجريب متضمن في المعنى اللغوي للمصطلح. إلا أن مفهوم (التجريب) في الثقافة العربية المعاصرة قد أخذ يكتسب دلالات عاطفية، أي أنه أخذ يكرس في حد ذاته باعتباره قيمة أثيرة يفاضل بينها وبين التيارات المستقرة في الأدب. ولكن المفاضلة كثيراً ما تفترض افتراضاً جزافياً مفاده أن طرفي المعادلة يحققان الحد الأقصى من القيم التي يعبران عنها. وبالتالي فإن التجريب يقوم هنا على أساس أنه تجربة متبلورة وناجزة. وكذلك الأمر بالنسبة للحداثة. فالتجريب والحداثة مرتبطان عادة بقيمة أساسية هي الابتكار، سواء فيما يتعلق بالشكل، أو بالتقنية، أو بالرؤية الشاملة، أو بمادة العمل الفني، وعلى ذلك فإن التجريب والحداثة ليسا وقفاً على فترة من الفترات، ولا وقفاً على المرحلة الراهنة من حياتنا الأدبية(7).
و (الطليعية) العربية ما تزال مجموعة جيوب مبعثرة، تنتمي إلى تواريخ زمنية مختلفة. وبالتالي فإن من المتعذر الحديث عن أجيال فنية تتبلور القيم الطليعية العربية من خلال صراعها. وذلك هو الإحراج الحقيقي.
فإذا كانت الطليعية تمثل المجموعة المتقدمة التي تستطلع للقوات المتحركة، وتمهد لها جغرافية المكان وتوقيت الزمان، فإن الطليعية العربية اكتفت بالتقدم دون أن يسهم هذا التقدم الاستطلاعي في تحريك القوات. ذلك أنها لم تخلق سياعاتها الخاصة، كما أنها لم تصنع قارئها المتلقي، كما ينبغي أن يكون.
و(الحداثة) عند جبرا إبراهيم جبرا- أحد نقاد وشعراء قصيدة النثر- هي أن تجد الطريق لكي تكون مساهماً فاعلاً في حضارة هذا القرن. لذلك فأنت مطالب بالتمرد، ومطالب بأن يكون في تمردك ما يستمد بعض حيويته من جذورك. وتضيف إليه من أصالتك المتجهة نحو زمانك. فتصبح جزءاً فاعلاً في عصرك، جزءاً غير منقطع عن ماضيك. ولكنه جزء لا يكرر ماضيك، ويحفزه التحرر حتى من حاضرك. أنا لا أقول بالانقطاع المطلق. فأنا أؤمن أن للتراث قوة هائلة في حياتنا. ويجب أن تبقى له هذه القوة المغذية للنفس. لكني أقول خذ من التراث ما هو حي، وأترك ما هو ميت للأكاديميين الذين يقول عنهم رامبو أنهم أموات أكثر من أي متحجر(8).
***
إذن، فالحداثة هي محاولة تركيب بين التراث والتجديد، والأصالة والمعاصرة. هي استمرار للتجديد الذي بدأت طلائعه في الشعر العربي، منذ أوائل العصر العباسي. واستمر في مدارس التجديد الشعرية الحديثة (الكلاسيكية الجديدة، والرومانسية، والرمزية.. الخ).
حيث ازدوج هذان التياران: التراثي، والحداثي في شعر هذه المدارس الحديثة، وتمثل، ثم أعيد إبداعه شعراً جديداً على مثال النتاج الشعري لهذه المدارس.
وغير بعيد عن هذا التعريف تعريف أدونيس للحداثة، فهي عنده أن تقبل الحوار مع الآخر. تتبدل الحداثة في العالم العربي عند الشعراء الذين عرفوا كيف يرفضون قوقعة تراثهم. ولم يخشوا وضع أنفسهم في موضع الإصغاء للثقافات الأخرى، الحداثة أن تفكر مجدداً بتراثك، فتنفتح بالفعل ذاته على التراثات الأخرى، دون محاكاة أو تنازل عن أصالتك(9).
هكذا تبدو الفكرة الأساسية في نزعة الحداثة كامنة في إدراك التماثل بين الطبيعة واللغة. وقد بدأ هذا الإدراك أبو نواس، وأبو تمام، وبعض الشعراء الصوفيين، وبخاصة النفري. لم تعد الطبيعة، بدءاً منهم، مجموعة من الأشياء المخلوقة، وإنما أصبحت مجموعة من الإشارات. أي أنها تحولت إلى غاية من الرموز. هكذا أحدث هؤلاء انفجاراً خلخل بنية التعبير الشعري. وقد تعمق اليوم هذا الانفجار بحيث أدت الخلخلة التي أحدثها إلى تغير في معنى الشعر وفي طبيعته. ومن هنا تغيرت منظورات كثيرة: (10).
1-لم يعد الشعر مجرد إرضاء لحاجة الآخر (الجمهور)، فقد نشأت حاجة جديدة:
البحث، ومقياس البحث هو في ما يفتحه أو يكشف عنه. إما إرضاء حاجة الجمهور فمقياس تطبيقي. ونجاح التطبيق تابع لمدى ثقافة الجمهور الفنية. وهذه ثقافة لا يخلقها الشعر، بل يخلقها النظام التربوي- التعليمي. ووجودها شرط لفهم الشعر والفن بشكل عام.
2-بدلاً من إبداع يسوغ نفسه بالماضي وقيمه، نهض إبداع يتأسس على تنظيم الحاضر، واستكشاف المستقبل. ولا يجد مسوغاته في الماضي، وإنما يجده في الطاقة التي تفتح أبعاد المستقبل.
3-بدلاً من أن نقرأ الحاضر في ضوء الماضي، أصبحنا، على العكس، نقرأ الماضي في ضوء الحاضر. هكذا أصبحت قراءتنا تحويلية: تكشف فعالية الشعر الخلاقة، وعلاقاتها الأساسية.
مثلاً نقرأ اليوم امرأ القيس أو أبا تمام في ضوء بدر شاكر السياب فنرى فيهما عالماً غنياً آخر لم يكن معروفاً.
4-وحدث انقلاب آخر على مستوى النقد. فالمفهوم النقدي التقليدي لا يقبل إلا الشعر الذي يتوافق مع الموروث وأصوله. أما المفهوم النقدي الذي ينشأ في مناخ الحداثة فإنه يؤسس معايير نقدية تنظر إلى الشعر في ذاته، ويقومه، تبعاً لذلك، بمقاييس من داخله، من تطور التعبير الشعري بالذات.
5-وفي ضوء الحداثة، بالمعنى الذي أشير إليه، يبدو مضحكاً القول إن بداية الشعر العربي الحديث قامت على تغيير في نسق التفعيلة. الحداثة هي انقلاب شامل. ليس وجود التفعيلة فيه أو عدم وجودها إلا أمراً ثانوياً جداً.
من هنا يميز أدونيس بين نوعين من الحداثة، الأولى ظاهرية، سياسية بالمعنى المباشر اليومي، والثانية عميقة بمعنى بناء الإنسان وحياته بناء كاملاً وكلياً. شعراء الحداثة بالمعنى الأول يضيعون في وهم التحركات والإنجازات الصغيرة، لذلك يسقطون في التفاؤلية السطحية للالتقاء بالذات، ويصبح شعرهم نوعاً من الامتداح والتبشير، وهم في هذا يضيفون إلى حالة الاستلاب الأصلية حالة أخرى أشد خطورة، هي حالة التوهم بأنهم تجاوزوا الاستلاب. ومثل هذه الحالة تنقلب إلى كذب شامل: على الذات، وعلى الواقع، وعلى المستقبل.
أما شعراء الحداثة، بالمعنى الثاني، فإن شعرهم، يستلب القارئ العربي من استلابه، ومن هنا صعوبته المؤقتة، وانفصاله المؤقت عن الجمهور. فالفرق بين الشعر الحديث بهذا المعنى، والشعر الحديث بالمعنى الأول، هو أن هذا الأخير يبقي القراء داخل نفوسهم، ضمن استلابهم، وهو يجاري هذه الاستلابات. أما الشعر الحديث بالمعنى الثاني، فيقتلع القراء، ويقذف بهم خارج نفوسهم. أي أنه يعاكس استلابهم. وفي حين يعبر شعراء الحداثة السطحية المباشرة عن أفكار ومشاعر يفرزها الاغتراب، بلغة مشحونة بهذه الإفرازات الاغترابية، فإن شعراء الحداثة العميقة يفرغون الله من شحنتها هذه، ويضعون القارئ أمام هاوية لا يرى فيها عادة أو تقليداً أو أي إفراز استلابي، وإنما يرى فيها ذاته العملية الأصيلة، ولكثرة ما هو القارئ العربي مستلب، تعود أن لا يرى في نفسه ذاته، بل غيره(11).
من هنا يمكن القول أن الحداثة، بشكل عام، على ثلاثة أنواع: حداثة علمية، وحداثة ثورية (اقتصادية، سياسية، اجتماعية)، وحداثة فنية. فإذا كانت الحداثة العلمية هي إعادة النظر المستمرة في معرفة الطبيعة، للسيطرة عليها. والحداثة الثورية تعني نشوء حركات ونظريات ومؤسسات وأنظمة حديثة تؤدي إلى زوال البنى التقليدية في المجتمع، فإن الحداثة الفنية هي تساؤل جذري، يستكشف اللغة، ويستقصيها، ويفتح آفاق تجريبية جديدة في الممارسة الكتابية.
وتشترك هذه المستويات جميعاً في خصيصة أساسية هي أن الحداثة رؤيا جديدة. وهي، جوهرياً، رؤيا تساؤل واحتجاج: تساؤل حول الممكن، واحتجاج على السائد. فلحظة الحداثة هي لحظة التوتر، أي التناقض والتصادم بين البنى السائدة في المجتمع، وما تتطلبه حركته العميقة التغييرية من البنى التي تستجيب لها وتتلاءم معها.
ما مدى حضور هذه المستويات، وما مدى فاعليتها في الحياة العربية؟ ليس في المجتمع العربي حداثة علمية. وحداثة التغييرات الثورية (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية) هامشية لم تلامس البنى العميقة. لكن، مع ذلك، وتلك هي المفارقة، هناك حداثة شعرية عربية.
وتبدو هذه المفارقة كبيرة حين نلاحظ أن الحداثة الشعرية في المجتمع العربي تكاد أن تضارع، في بعض وجوهها، الحداثة الشعرية الغربية. ومن الطريف أن نلاحظ، كما يقول أدونيس، أن حداثة العلم في الغرب متقدمة على حداثة الشعر، بينما نرى العكس في المجتمع العربي، فحداثة الشعر متقدمة على الحداثة العلمية والثورية. ومن هنا تبدو الحداثة الشعرية العربية لكثير من العرب وكأنها جسم غريب مستعار. وفي هذا ما قد يفسر أسباب عدائهم لها، ورفضهم إياها، ورمي ممثليها بمختلف التهم التي تبدأ بالغموض، وتنتهي بتهمة تقليد الغرب، مروراً بتهمة هدم التراث أو التنكر له(12).
وقد نشأت إشكالية الحداثة الشعرية العربية كخروج على محاكاة النموذج القديم، أي نموذج النظم كما تمثله القصيدة الجاهلية، والذي سمي في المصطلح النقدي بـ "عمود الشعر" ويتضمن هذا الخروج تمرداً على معيارية ترسخت قيمياً وفنياً، واتخذت طابعاً ثقافياً اجتماعياً ذا بعد سلطوي. لكن الشعر الجديد نشأ بفعل الضرورة التي فرضتها المرحلة التاريخية الحضارية، وليس بمجرد الرغبة في معارضة القديم. فهذه المرحلة المعاصرة واجهت الشاعر بأسئلة وبمشكلات فرضت عليه أن يعيد النظر في اللغة الشعرية القديمة، وفي طرق التعبير المألوفة.
وإذن فالجديد لم ينشأ إلا بنوع من التعارض مع القديم من جهة، وبنوع من التفاعل مع الغرب من جهة ثانية. وهذا ما تنطق به الحضارة العربية في عصرها الذهبي، فالثقافة العربية في العصر العباسي هي جسد مغاير للجسد الثقافي الجاهلي، لأنها مزيج تأليفي من الجاهلية والإسلام تراثياً، ومن الآخر (الهند، وفارس، واليونان) تفاعلياً. بالإضافة إلى العناصر الأكثر قدماً: سومر، وبابل، وآشور في صورها الآرامية- السريانية. وفي هذا أعطت الفاعلية الإبداعية العربية المثل النموذجي الأول لالتقاء الثقافات وتفاعلها. وأنه لا يمكن أن تقوم لشعب ما ثقافة بذاتها، ولذاتها، بمعزل عن ثقافات الشعوب الأخرى، فثقافة كل شعب حضاري إنما هي تأثر وتأثير، أخذ وعطاء، حركة من التفاعل. وقد أعطت الحضارة العربية المثل الآخر، وهو أن شرط هذا التفاعل أن يتسم بالإبداعية والخصوصية في آن. ونقل العرب هذا المزيج التأليفي الإبداعي الخصوصي، في ذروته العليا، إلى الآخر (الغرب) عبر الأندلس.
فالحداثة، إذن، هي التغاير، وهي الخروج من النمطية، والرغبة الدائمة في خلق المغاير. والحداثة، في هذا المستوى، ليست ابتكاراً غريباً، فقد عرفها الشعر العربي منذ القرن الثامن، أي قبل بودلير ومالارميه ورامبو بحوالي عشرة قرون. وهي لذلك ليست "مستوردة"، وليست "خطراً"، وإنما هي ظاهرة أصيلة عميقة في حركة الشعر العربي. ويمكن التأريخ للشعر العربي بدءاً من بشار بن برد من زاوية هذا الصراع أو "الجدل" بين "القديم"، و "المحدث". وهذا هو التاريخ الحقيقي للشعر، عند العرب، وهو التاريخ الذي لم يكتسب بعد.
الحداثة، إذن، ملازمة للقدم في كل مجتمع وفي كل مرحلة. وهي لا تبحث في المطلق كمفهوم مطلق، وإنما هي دائماً حداثة شعر معين في شعب معين، وفي أوضاع تاريخية معينة. والحديث في هذا الشعب ينشأ من القديم فيه. صحيح أن "الأخذ" يغني، لكنه إذا اقتصر على الأخذ وحده لا يلبث أن يموت، لأنه لا يتوالد، ولأنه ليس نتاج الذات، بل هو نتاج الآخر. والقديم إذا لم يتفجر ويتوالد ويتجاوز نفسه، لا يلبث أيضاً أن يتحجر ويفقد نفسه الحي. الحداثة، في هذا المنظور، هي الاختلاف في الائتلاف. الاختلاف من أجل القدرة على التكيف وفقاً للتغيرات الحضارية والتقدم. والائتلاف من أجل التأصل والمقاومة والخصوصية. الاختلاف المفرط عن تراث اللغة التي يكتب بها الشاعر هو الموت، أي التبخر كالدخان بالقياس إلى نار هذه وجمرها.
الائتلاف المفرط هو الموت أيضاً، أي التخثر كالحجر، كأن الحداثة أن تخلق النظام فيما تمارس الفوضى، أو كأنها أن تجرح في ما تلائم(13).
وعلى هذا تبدو الحداثة صراعاً دائماً. وهي تأخذ في المجتمع طابعاً حاداً أو هادئاً، جذرياً أو اصطلاحياً، بحسب ظروف المجتمع وأوضاعه. ومن هنا تبدو الحداثة حركة دائمة إلى الأمام في قديم يحاول أن يكون حركة دائمة إلى الوراء.
وإنه ليمكن اختصار معنى الحداثة في أنه التوكيد المطلق على أولية التعبير، أي أن طريقة القول أو كيفيته هي أكثر أهمية من الشيء المقول. وإن شعرية القصيدة أو فنيتها هي في بنيتها لا في وظيفتها. وهذا يتضمن نتيجة أساسية هي أن قيمة الشعر ليست في مضمونه بحد ذاته، سواء كان واقعياً أو مثالياً، تقدمياً أو رجعياً، وإنما في كيفية التعبير عن هذا المضمون، فقد يكتب شاعر عن موت شهيد ثوري قصيدة، ويكتب شاعر آخر قصيدة أخرى عن موت عصفور، ومع أن الموضوع الأول أنبل وأسمى، فقد تكون القصيدة الثانية أغنى وأجمل. ولكن هذا لا يعني أن القصائد التي تدور حول موضوعات من النوع الأول هي بالضرورة، قصائد رديئة، بل يعني أن المهم هو الشاعر وكيفية تعبيره، وليس الموضوع بحد ذاته(14).
***
ورغم هذا فإنه ينبغي التمييز دوماً بين الجديد و "الجديد" بين البدعة والإبداع، بين الزي والحداثة. ومن هنا يحذر أدونيس(15) من أوهام الحداثة، التي تتداولها الأوساط الشعرية العربية، وتكاد، على المستوى الصحفي الإعلامي، أن تخرج بالحداثة عن مدارها، عدا أنها تفسد الرؤية وتشوه التقييم، ولعل هذه الأوهام تتمثل في ما يلي:
أولاً- الزمنية، فهناك من يميل إلى ربط الحداثة بالعصر، بالراهن من الوقت، من حيث إنه الإطار المباشر الذي يحتضن حركة التغير والتقدم أو الانفصال عن الزمن القديم. والتقاط هذه الحركة شعرياً، أي رصدها وفهمها والتعبير عنها، دليل كاف بحسب هذا الميل، على الحداثة، ومن الواضح أن هؤلاء ينظرون إلى الزمن على أنه نوع من القفز المتواصل، وعلى أن ما يحدث الآن متقدم على ما حدث غابراً، وعلى أن الغد متقدم على الآن. والواقع أن هذه نظرة شكلية تجريدية، تلحق النص الشعري بالزمن، فتؤكد على اللحظة الزمنية، لا على النص بذاته، وعلى حضور شخص الشاعر، لا على حضور قوله. وهي، من هنا، تؤكد على السطح، لا على العمق، وتتضمن القول بأفضلية النص الراهن، إطلاقاً، على النص القديم. وخطأ هذه النظرة كامن في تحويل الشعر إلى زي، أعني أنه كامن في إغفالها أمراً جوهرياً هو أن حداثة الإبداع الشعري غير متساوقة مع حداثة الزمن. فإن من الحداثة ما يكون ضد الزمن كلحظة راهنة، ومنها ما يستبقه، ومنها ما يتجاوزه أيضاً. فحين يهزنا اليوم شعر امرؤ القيس مثلاً، أو المتنبي، فليس لأنه ماض عظيم، بل لأنه –إبداعياً- يمثل لحظة اختراق الأزمنة. فالإبداع حضور دائم. وهو –بكونه حضوراً دائماً- حديث دائماً.
ومعنى ذلك أن ثمة شعراً كتب في زمن ماض ولا يزال –مع ذلك- حديثاً، فالشعر لا يكتسب حداثته بالضرورة من مجرد زمنيته، وإنما الحداثة خصيصة تكمن في بنيته ذاتها. ويمكن القول، في أفق هذا المنظور، أن امرأ القيس مثلاً، هو في كثير من شعره أكثر حداثة من شوقي في شعره كله، وأن في شعر أبي تمام، مثلاً، حساسية حديثة ورؤيا فنية حديثة لا تتوافر عند نازك الملائكة.
الوهم الثاني هو ما يمكن أن يسمى بوهم المغايرة. وأصحاب هذا القول يرون أن التغاير مع القديم، في الموضوعات والأساليب، هو الحداثة، أو الدليل عليها، وينتج عن هذا الوهم القول بآراء حول بنية القصيدة، وحول الوزن ووحدته الإيقاعية، وحول مضموناتها، تغاير آراء النقاد القدامى. ويكفي الشاعر في منظور هذا الوهم أن يصنع قصيدة تغاير، بموضوعها وشكلها، القصيدة الجاهلية أو العباسية، لكي يكون حديثاً. وهذه نظرة آلية تقوم على فكرة إنتاج النقيض. وهي شأن النظرة السابقة، تحيل الإبداع إلى لعبة في التضاد. تلك تضاد الزمن بالزمن. وهذه تضاد النص بالنص. وهكذا يصبح الشعر تموجاً ينفي بعضه بعضاً، مما يبطل معنى الشعر ومعنى الإبداع على السواء.
الوهم الثالث يمكن تسميته بوهم المماثلة، ففي رأي بعضهم أن الغرب مصدر الحداثة، اليوم، بمستوياتها المادية والفكرية والفنية، وتبعاً لهذا الرأي، لا تكون الحداثة، خارج الغرب إلا في التماثل معه. ومن هنا ينشأ وهم معياري تصبح فيه مقاييس الحداثة في الغرب مقاييس للحداثة خارج الغرب. وهذه نظرة تصدر عن إقرار مسبق بتفوق الغرب، ولهذا فإن أصحابها والدائرين في فلكها ينعون دائماً على الشعر العربي تخلفه وتقصيره عن اللحاق بالشعر الغربي، كما ينعون على الحياة العربية، إجمالاً، تخلفها وتقصيرها عن الحياة الغربية.
لكن ألا تبدو المماثلة هنا استلاباً كاملاً، أي ضياعاً في الآخر حتى الذوبان؟ الحق أن شعر المماثلة مع الخارج المحتذى ليس إلا الوجه الأكثر إغراقاً في ضياع الذات لشعر المماثلة مع الموروث التقليدي المحتذى. فالعربي الذي ينتج اليوم شعراً لمحاكاة القديم، إنما يعيد إنتاج الوهم الأسطوري- التراثي، ولا يبدع شعر ذاتيته الواقعية الحية. والعربي الذي يكتب اليوم شعر المماثلة مع الآخر. إن الممارسة الشعرية هنا وهناك إنما هي استلاب. لذلك تقتضي الحداثة قطعاً مع التأسلف ومع التمغرب في آن، من أجل كتابة الذات الواقعية الحية، وقد وعت فرادتها وخصوصيتها إزاء الآخر، وتمثلت بنقد جذري إبداعي، أسطورتها الذاتية- الأبوية، وتجاوزتها إلى أبعاد جديدة.
الوهم الرابع فني، ويرتبط بوهم التشكيل النثري، ووهم الاستحداث المضموني. وهما رائجان اليوم. وهم النثر هو استغراق في المغايرة- المماثلة، ووهم المضمون استغراق في الزمنية، من الناحية الأولى يرى بعض الذين يمارسون كتابة الشعر نثراً إن الكتابة بالنثر، من حيث هي تماثل كامل مع الكتابة الشعرية الغربية، وتغاير كامل مع الكتابة الشعرية العربية، إنما هي ذروة الحداثة. ويذهبون في رأيهم إلى القول بنفي الوزن، ناظرين إليه كرمز لقديم يناقض الحديث.
وهؤلاء لا يؤكدون على الشعر بقدر ما يؤكدون على الأداة. والنثر، كالوزن أداة، ولا يحقق استخدامه، بذاته، الشعر. فكما أننا نعرف كتابة بالوزن لا شعر فيها، فإننا نعرف أيضاً كتابة بالنثر لا شعر فيها، بل إن معظم النثر الذي يكتب اليوم على أنه شعر لا يكشف عن رؤية تقليدية وحساسية تقليدية وحسب، وإنما يكشف أيضاً عن بنية تعبيرية. وهو، لذلك، ليس شعراً ولا علاقة له بالحداثة. وهذا ما ينطبق أيضاً على معظم الشعر الذي يكتب اليوم وزناً.
ولعلنا نعرف جميعاً أن (قصيدة النثر)، وهو مصطلح أطلقته جماعة مجلة (شعر) إنما هي، كنوع أدبي وشعري، نتيجة لتطور تعبيري في الكتابة الأدبية الأمريكية- الأوربية. ولهذا فإن كتابة قصيدة نثر عربية أصيلة تفترض، بل تحتم الانطلاق من فهم التراث العربي الكتابي، واستيعابه بشكل عميق وشامل، ويحتم من ثم، تجديد النظرة إليه، وتأصيله في أعماق خبرتنا الكتابية- اللغوية، وفي ثقافتنا الحاضرة، وهذا ما لم يفعله الأقلة، حتى إن ما يكتبه هؤلاء القلة لا يزال تجريبياً، فكيف يكون الأمر، والحالة هذه، مع الذين يقتنصون هذا التجريب، ويعرشون عليه، بانقطاع كامل عن لغة الكتابة الشعرية العربية، في عبقريتها الخاصة، وفي نشأتها ونموها وتطوراتها.
وأخيراً، يزعم بعضهم، انسياقاً وراء وهم استحداث المضمون، إن كل نص شعري يتناول إنجازات العصر وقضاياه هو، بالضرورة، نص حديث. وهذا زعم متهافت. فقد يتناول الشاعر هذه الإنجازات، وهذه القضايا برؤيا تقليدية، ومقاربة فنية تقليدية، كما فعل الزهاوي والرصافي وشوقي، تمثيلاً لا حصراً، وكما يفعل اليوم بعض الشعراء، باسم بعض النظريات المذهبية الأيديولوجية. فكما أن حداثة النص الشعري ليست في مجرد زمنيته، أو مجرد تشكيليته، فإنها كذلك ليست في مجرد مضمونيته.
تلك هي أوهام لا يصح الكلام عن الحداثة الشعرية العربية إلا بدءاً من نقضها وإبطالها. ولا بد، في هذا السياق، من الإشارة إلى ظاهرة شبه مرضية في الوسط الثقافي العربي هي ظاهرة اتهام الشاعر العربي الحديث بتقليد الحداثة الغربية، وتقليد شعرائها، وبنقل مفهوماتها، والحكم –تبعاً لذلك- على الحداثة الشعرية العربية، بأنها غير "أصيلة"، وليست لها قيمة شعرية أو فنية. وغالباً ما يكون هذا الحكم قائماً على الاجتراء، وعلى الجهل بالشعر الغربي، والشعر العربي معاً.
بودلير، مالارميه: إنهما نظرياً وشعرياً أساس الحداثة في الشعر الفرنسي، لكنهما لم يأخذا مفهوم الحداثة من "التراث" الفرنسي، وإنما أخذاه من الولايات المتحدة، من ادغار ألن بو.
أكثر من ذلك: أن مدار آرائهما في الشعر هو نفسه مدار آرائه، حتى أنهما يتبنيان أفكاره نفسها. رامبو: أليس شعره مليئاً باقتباسات وأفكار وأقوال يأخذها من مصادر متنوعة وفي مقدمتها المصادر الشرقية؟، واقرأوا دانتي أو شكسبير أو غوته: ألا تجدون في نتاجهم عبارات وأفكاراً وآراء مأخوذة من تراث شعوب مختلفة ونتاج شعراء مختلفين؟ كذلك يمكن القول بالنسبة إلى هولديرلن ونرفال وشاروميشو وجوف وسان جون بيرس، لكي لا نسمي إلا عدداً من الكبار.
وماياكوفسكي؟ هل أخذ مفهوم الحداثة الشعرية من التراث الروسي، أم أن أخذه، على العكس من بودلير ورامبو ومالارميه؟ كذلك اليوت: لم يأخذ مفهوم الحداثة من التراث الإنكليزي، وإنما أخذه من بودلير ولافورغ وكوربيير. فهل هناك قارئ ناقد يقيم أحداً من هؤلاء بما "أخذه" عن غيره؟. أو يقول عنه أنه خرج على تراثه؟ ثم أليس من المسكنة العقلية، حين نتحدث عن هؤلاء، أن نقف عند فكرة أو عبارة اقتبسوها، ونتهمهم بأنهم سارقون، مقلدون؟.
وما يصح على هؤلاء يصح على شعرائنا العرب: أبي نواس وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء، لكي لا نسمي أيضاً إلا عدداً من الكبار. لقد أدخل هؤلاء ما أخذوه واقتبسوه في نسق مغاير خاص، وصهره كل منهم في نظام من العلاقات متميز وخاص به. وإنه لجهل كامل بالشعر، أن نجتزئ، حين ننقدهم فكرة من هنا وقولاً من هناك، داخل نتاجهم ونصور أحكامنا عليهم، وإنما يجب أن نكتشف النسق العام لهذا النتاج ونظام علاقاته، ومن ثم نصدر أحكامنا.
ينبغي على القارئ/ الناقد، أن يواجه في تقييم شاعر ما ثلاثة مستويات: مستوى النظرة أو الرؤيا، ومستوى بنية التع
محاولة في تعريف الحداثة الشعرية:
ليس الشعر ماهية. إنه نص محدد لشاعر محدد. ويحدد الشعري بلغته لا بفكريته. بمعنى أن هناك لغة توصف بأنها شعرية، مقابل لغة توصف بأنها غير شعرية. لكن هذا لا يعني أن اللغة خالية من الفكرية، وإنما اللغة في الشعر ليست كلمات تملأ بأفكار كما هي الحال في العلم أو النثر.
إن شعرية النص تتبدل حسب الأزمنة، والأمكنة: في شعرنا القديم كانت الشعرية وصفية. فالشعر عندهم هو الكلام الموزون المقفى الدال على معنى. وهذا ما تجاوزته الممارسة الشعرية العربية الحديثة. هنالك نصوص موزونة مقفاة، ومع ذلك فهي ليست شعراً. أسس هذا الناقد الجرجاني الذي يرى أن شعرية النص لا تجيء من الوزن والقافية بالضرورة. وإنما من ما سماه بطريقة النظم، أو النسق الذي تأخذه الكلمات في السياق. ولتوضيح ذلك ينبغي التمييز بين معنيين: عقلي، وتخييلي. فالأول ثابت وصريح، "وليس للشعر في جوهره وذاته نصيب"، كما يرى الجرجاني. ومثاله ليس في الشعر القديم وحده، بل وفي معظم النتاج الشعري "الحديث". وفي مقدمته نتاج شوقي، وحافظ وسواهما. والثاني "لا يمكن أن يقال أنه صدق، وأن ما أثبته ثابت. وما نفاه منفي. وإنه مفتن المذاهب، كثير المسالك، لا يكاد يحصر إلا تقريباً. ولا يحاط به تقسيماً وتبويباً". كما يرى الجرجاني أيضاً. وهذا يعني أن الواقع بوقائعه وحقائقه الثابتة ليس مقياساً لصدق الشعر، وليس التطابق معه معياراً للشعرية وجودتها.
فللشعر واقع آخر غير الواقع العيني، الجاهز، المباشر. وإنه لا يمكن وضع تعريفات نهائية للشعر، لأنه ليس ثابتاً، فهو حركة مستمرة من الإبداع المستمر. وهو يأتي من أفق لا ينتهي، ويتجه إلى أفق لا ينتهي(1).
وفي الشعر المسمى "حديثاً" ما تزال الخطابة نموذج البلاغة الأرقى. والأكثر فاعلية. ولئن تراجع –بفعل الظروف- فقد بقي مثالاً في الذاكرة. ومن هنا نشأت الضرورة لمحاكاة هذا المثال في فنون القول الأخرى، وفي طليعتها الشعر. وقد كان الخطيب، في الجاهلية، سيد القبيلة وحكيمها. فالخطابة مرتبطة –إذن- بالسيادة والسياسة. وفي الإسلام أضيف ارتباط الدين.
ومن هنا كان الخطيب يمثل "النظام". وتعبيره يمثل "لغة النظام" من حيث هي أداة التعبير عن الأغراض الجماعية والآراء العامة، على النقيض من الشعر الذي كان ينحرف أحياناً عن هذه إلى التعبير عن الأغراض الذاتية والانفعالات الشخصية، خصوصاً أن الشعراء لم يكونوا بعامة من الأسياد والحكماء، بل كانوا من "عامة" الناس إجمالاً، وفي هذا ما يفسر انحدار الشعر إلى الابتذال والتكسب والهجاء الذي ينال من الحرمات والأعراض. وفيه ما يفسر أيضاً تقديم الخطابة على الشعر، في العهد الإسلامي الأول، لحاجة المسلمين إليها في الدفاع عن الدين الجديد، والتبشير به، وجمع الآراء حوله. وفي هذا، إلى أن ذلك، ما يفسر تحول الشعر، في العهد الإسلامي الأول، إلى خطابة، أي على أن يتبع منهجاً خطابياً. فالشعر الديني والسياسي مثلاً كان خطابياً يقوم على الارتجال والجدل وهجاء الخصم ومدح الصديق، كان حماسياً، تبشيرياً، يعكس العقيدة، ويهدف إلى الإقناع، ومن هنا يمكن تسميته بالخطابة الموزونة المقفاة(2).
ولا يعود انتشار الشعر إلى أوليته على الخطابة، نوعياً، وإنما يعود إلى أسباب موضوعية:
الأمية وانعدام الكتابة، وإمكان الذاكرة أن تستوعبه وتحفظه أكثر مما تستوعب الخطب وتحفظها. وفي هذا الصدد يؤكد النقاد العرب: "إن ما تكلمت به العرب من جيد المنثور ومزدوج الكلام أكثر مما تكلمت به من الموزون، إلا أنه لم يحفظ من المنثور عشره. ولا ضاع من الموزون عشره"(3).
هكذا رسموا للشعر نمطاً وظيفياً يقوم على سمات موضوعية معينة. سواء في المدح أو الرثاء أو الهجاء أو غيرها. وقوام هذا النمط الوظيفي التأثيري في السامع، في مناخ من البديهة والارتجال والإيجاز. أي من الوضوح والدقة والمباشرة.
وكما تغيرت البنى العربية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً حين أخذ العرب يعيشون في مناخ حضاري جديد، فإنه كان لا بد أن تتغير البنية الأدبية أيضاً. هكذا حدث تحول كبير في الشعر: لم يعد السامع عنصراً أساسياً فيه كما كان في الخطابة، ولم يعد الموضوع عنصراً أساسياً فيه كما كان في الخطابة. صار القائل العنصر الأساسي في القول. وهذا يعني أن خطاً فاصلاً بدأ يرتسم انفصالاً عن المحاكاة والمشابهة بحيث أخذ الشاعر يحدث شعره الخاص. دون لجوء إلى معيار خارجي، أي دون اللجوء إلى المعيار القديم الموروث. لقد حلت الكتابة محل الخطابة، وحلت القراءة محل السماع. ومثل هذه النقلة وهذا التحول الكبير لم يحدث فجأة، ودون سابق إنذار، وإنما مهدت له التطورات والتجديدات الكمية التي تحولت، فيما بعد، إلى تحول نوعي، فلم يعد الشعر، في الكتابة الجديدة، يخاطب الأذن والحواس، بل أصبح يخاطب الفكر عن طريق العين. وأصبحت الكتابة نصاً ماثلاً للتأمل. ليست محاكاة وائتلافاً، بل هي اختلاف وإبداع. لم يعد القارئ يطلب من الشاعر أن يعيد إنتاج ما أنتجه الشعراء السابقون إي إنتاج الماضي أو القديم. وإنما يطلب منه أن يبدع شيئاً جديداً، رؤيا للعالم، وطريقة تعبير جديدة. ولأن القراءة على مستويات عديدة، تبعاً للقراء. فلا يمكن أن يصل قارئ النص الإبداعي إلى القبض على "حقيقة" النص النهائية. فلهذه "الحقيقة" مستوياتها، العديدة، وبهذا فإن القارئ يخلق النص. إنه خلاق آخر يواكب خالق النص. والنص الإبداعي –بهذا المعنى- هو أفق من الدلالات. وليس "مكاناً" لمجموعة من الأفكار.
ويدعو أدونيس إلى خلق حساسية شعرية جديدة، وتذوق جديد، وفهم جديد. ومعنى ذلك في الشعر أن نتجاوز طرائق التعبير التقليدية، ومقاييس النقد القديمة، والشفوية الخطابية، وتجاوز الأنواع الأدبية القديمة، من أجل تأسيس نوع جديد من التعبير، بحيث تصبح القصيدة مثلاً كتابة جديدة. ليست وزناً بالضرورة، وليست لا وزناً بالضرورة. وإنما هي إيقاع وزني نثري. أو نثري وزني. وهكذا تصبح القصيدة شكلاً مفتوحاً. وهذا يعني تجاوز مفهوم الشعر كما ورثناه. وتحديد جديد للشعر(4).
***
هكذا ننتقل عن علم جمال الخطابة إلى علم جمال الكتابة. ويحدد أدونيس ملامح علم جمال الكتابة في الأمور التالية: (5).
أولاً- التفكير في المعروف والتعبير عنه هو جوهر نظرية الشعر الموروث، بينما الإبداع دخول في المجهول لا في المعلوم، وأن نبدع هو أن نكتب ونخرج ما كتبناه من الماضي لندخل إلى الحاضر.
ثانياً- ينبغي أن تتغير الحدود التي كانت تقسم الكتابة إلى أنواع. في الكتابة الجديدة نوع واحد هو الكتابة. لا نعود نلتمس معيار التمييز في نوعية المكتوب: هل هو قصيدة؟ أم قصة؟ مسرحية أم رواية؟. وإنما نلتمسه في درجة حضوره الإبداعي.
ثالثاً- ليس التراث ما يصنعك بل ما تصنعه. ليس الماضي كل ما مضى. الماضي نقطة مضيعة شاسعة. فإن ترتبط، كمبدع، بالماضي هو أن تبحث عن هذه النقطة المضيئة. والوفاء لغير هذا البحث وفاء لسقوط مسبق، وليست الثقافة استعادة، وإنما هي ابتكار.
رابعاً- جوهر القصيدة في اختلافها، لا في ائتلافها. وليست القصيدة جواباً، بل هي سؤال ضمن السؤال، ليس للشعر تخوم، لذلك ليست المسألة أن نفهمه، بل أن نتأمل في أبعاده. ليست أن نستوعبه، بل أن نواكبه. هكذا لم يعد جائزاً أن نقرأ القصيدة خطياً، سطراً سطراً، وإنما يجب أن نقرأها كائناً نقرأ فضاء.
خامساً- ليس الشكل عند الشاعر الجديد، في الكتابة الجديدة، صيغة كتابة، وإنما هو صيغة وجود، أي وعد ببداية جديدة، ومن هنا لا ينطلق الشاعر الجديد من أولانية شكلية، بل من أولانية اللا شكل، بهذا يتحرر من المكتسب، المتعلم، الاصطلاحي. يتحرر من أن يمارس ما مورس، يخلص من تصنيفه داخل الثقافة الموروثة، يتحرك وفي أعماقه طموح لا إلى أن يتعلم القيم السائدة بل إلى أن يخلق القيم الجديدة.
والدعوة إلى تأسيس كتابة جديدة هي، كذلك، دعوة إلى تثوير الكتابة الشعرية، جذرياً، ومعنى هذه الثورة الشعرية أن المسألة في تجديد الشعر ليست في تغيير شكله وحسب، أو في تغيير محتواه وحسب، وإنما هي أيضاً. وقبل ذلك، في تغيير معناه بالذات، وبالتالي في تغيير النظرة إليه وطريقة فهمه.
***
وتستند الحركة الشعرية الجديدة إلى الأسس التالية: (6)
أولاً- التمرد على الذهنية التقليدية، فلا يتم التجديد بالعودة إلى التقليد، أو بالتلاؤم مع أشكاله الشعرية، بل إن في ذلك انفصالاً عن الحاضر. والتقليد ثبات، والحياة حركة.
فمن يبقى في التقليد يبقى خارج الحياة، وكما أن الأمانة للتقليد نفي للحياة، فإن الأمانة لأشكاله وأساليبه الشعرية نفي للشعر. وكم يتحتم على هذا التمرد أن يكون جذرياً وفذاً، إذا تذكرنا أن التقليد في بلادنا ليس مجرد إيمان واقتناع، وإنما هو نظام حياة، ونظام فهم للحياة.
ولا شك أن التمرد على الذهنية التقليدية يعني تخطي المفهوم القديم للشعر العربي، وتخطي ما فيه من قيم وثبات. ولكن هذا لا يعني ازدراء الماضي، أو انقطاعاً عن التراث، وإنما هو استجابة للوضع الحضاري الراهن. فمن البداهة أن الشاعر العربي المعاصر لا يكتب في فراغ، بل يكتب ووراءه الماضي، وأمامه المستقبل. فهو ضمن تراثه، ومرتبط به. ولكن هذا الارتباط ليس محاكاة للأساليب والنماذج التقليدية، وليس تمشياً معها، ولا بقاء ضمن قواعدها ومناخها الثقافي –الفني- الروحي. فليس التراث عادة في الكتابة، أو في موضوعات طرقت ومشاعر عونيت وعبر عنها، وإنما هو طاقة معرفة، وحيوية خلق، وذكرى في القلب والروح.
وللارتباط بالتراث معنيان: أولهما، إذا كان يتحتم على شعرنا المعاصر، لكي يكون جديداً حقاً، أن يقبض على لحظته الزمنية الحضارية، ويصدر عنها، فلا يكون إعادة أو اجتراراً أو أي نوع من أنواع الخضوع للتقليد، فإن الارتباط بالتراث يكون ارتباط خلق وإضافة واستباق.
وثانيهما، إذا كان من غير الجائز، شعرياً، أن نحكم على الحاضر بمقاييس الماضي، فذلك يعني أن هناك نوعاً آخر من الارتباط بالتراث، هو ارتباط التقابل والتوازي والتضاد. إن الشاعر يظل ضمن تراثه مرتبطاً به. وإن كان غير منسجم مع معطياته التقليدية أو متناقضاً معها، فليس التراث الحي خيطاً وحيد اللون، أو صوتاً يكرر نفسه، بل هو قوى متنوعة ومتناقضة، تنوع الحياة وتناقضها. يقول أدونيس: إننا بقدر ما نحن بعيدون تاريخياً وحضارياً عن أبي نواس مثلاً، قريبون منه. لكن يبقى لنا وجودنا الخاص، وتجربتنا الخاصة. وبقدر ما ينبغي أن نعي صلتنا به، علينا أن نعي انفصالنا عنه. إن للأثر الشعري وجوداً بحد ذاته، مستقلاً عن أشكال الوجود التي صدر عنها. وإذا كان هذا الاستقلال قائماً بالنسبة إلى الحاضر، فكم هو بالأحرى ضروري أن يكون قائماً بالنسبة إلى الماضي.
إن رفض التقليد، والذي بدأ يتغلغل في الثقافة العربية، ويوجد الحركة الشعرية الجديدة. ليس مجرد كلام سهل، بل هو فعل خلاق. صحيح أنه يولد الغموض والفوضى، ويثير الشكوك والتناقض، إلا أنه، في الوقت ذاته، علامة الحيوية والوضوح، ودليل التحول وولادة الرؤيا الجديدة، ولا يستطيع الشاعر أن يبني مفهوماً شعرياً جديداً إلا إذا عاش أولاً في داخله انهيار المفهومات السابقة، ولا يستطيع أن يجدد الحياة والفكر إذا لم يكن عاش التجدد.
ثانياً- التعبير عن المرحلة الحضارية المعاصرة، فالثقافة العربية التي سادت هي في جوهرها ثقافة دينية. وتاريخ الفكر العربي يرينا إلى أي حد كانت السيطرة الدينية قوية وحاسمة على المفكرين والفلاسفة، مما اضطرهم إلى التوفيق بين العدل والدين. والثقافة العربية السائدة عالم مغلق. والعربي مرتبط من الناحية الثقافية بقيم ثابتة تعتبر صالحة لكل زمان ومكان. وفي هذا تناقض فاجع يعيشه العربي.
ولا بد للشاعر العربي المعاصر من أن يتخطى قيم الثبات في تراثه الشعري القديم بخاصة، وفي تراثه الثقافي بعامة، لكي يقدر أن يبدع شعراً في مستوى اللحظة الحضارية التي يعيشها.
وكما أنه من الطبيعي أيضاً أن لا يرى تراثه في أشكال التعبير الشعري قيماً نهائية. فمن الطبيعي أيضاً أن ينظر إلى تراثه الحضاري من هذه الزاوية. وهكذا يصبح التراث العربي: شعراً، وثقافة جزءاً من الحضارة الإنسانية. ولا يلتمس الشاعر العربي المعاصر ينابيعه في تراثه وحده، بل في الكل الحضاري الشامل.
ثالثاً- القصيدة العربية القديمة مجموعة أبيات، أي مجموعة وحدات مستقلة متكررة لا يربط بينهما نظام داخلي، وإنما تربط بينها القافية. وهي قائمة على الوزن، والإيجاز.
وفي مقابل هذه القصيدة العربية القديمة التي ما تزال مستمرة، بشكل أو بآخر حتى اليوم. تنهض القصيدة الجديدة. وإذا أردنا أن نقارن بينهما نجد أن الأولى إذ تقوم على وحدة البيت المتكرر المستقل، وعلى القافية التي تنظم هذه الوحدة المتكررة، وإذ تلتمس جماليتها، بالتالي، في جمالية البيت المفرد، فإن القصيدة الجديدة هي وحدة متماسكة، حية، متنوعة.
وهي تنقد ككل لا يتجزأ، شكلاً ومضموناً. والقصيدة القديمة صناعة ومعان، بينما القصيدة الجديدة تجربة متميزة. والقصيدة القديمة لغة ذوق عام وقواعد نحوية وبيانية، بينما القصيدة الجديدة لغة شخصية. ولا ضير في تكرار المعاني بالنسبة للقصيدة القديمة، في حين أن الفرادة وجدة الرؤيا من أهم عناصر القصيدة الجديدة. والقصيدة القديمة قائمة على الوزن السهل، المحدد، المفروض من خارج، بينما تقوم القصيدة الجديدة على الإيقاع النابع من داخل. لذلك فهو ابتكار، ويتطلب استخدامه قوة وبراعة وموهبة أكثر مما يتطلب استخدام الوزن. وهناك شكل واحد في القصائد القديمة كلها. بينما لكل قصيدة جديدة شكلها الخاص، نثراً أو وزناً، أو نثراً ووزناً في آن. وفي حين لا يتطلب إدراك الشكل في القصيدة القديمة جهداً، فإن إدراكه في القصيدة الجديدة يتطلب وعياً شعرياً كبيراً. فهو يتناول معرفة الأجزاء في مادة القصيدة، وعلاقات هذه الأجزاء بعضها ببعض، وائتلافها فيما بينها، ووحدتها، ومن لا قدرة له على هذا الإدراك، لا يقدر أن يفهم القصيدة الجديدة.
رابعاً-التعبير الشعري جزء من الحالات النفسية والشعورية. والتعبير لغة. واللغة كائن حي يتجدد. وإذا كان الشعور الجديد يعبر عن نفسه تعبيراً جديداً، فإن هذا يعني أن له لغة متميزة خاصة. والتعبير الشعري انفعال وحساسية وتوتر ورؤيا، لا نحو وقواعد. ويعود جمال اللغة في الشعر إلى نظام المفردات وعلاقاتها. وهو نظام لا يتحكم فيه النحو، بل الانفعال أو التجربة. ومن هنا كانت لغة الشعر لغة إيحاءات على النقيض من لغة العلم التي هي لغة تحديدات. هكذا يؤمن الشاعر العربي الجديد أن على اللغة أن تساير تجربته بكل ما فيها من التناقض والغنى والتوتر. وهو في ذلك يفرغ الكلمة من شحنتها الموروثة التقليدية، ويملؤها بشحنة جديدة تخرجها من إطارها العادي ودلالتها الشائعة.
ولعل خير ما نعرف به الشعر الجديد هو أنه رؤيا. والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفهومات السائدة. إنها تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها. هكذا يبدو الشعر الجديد تمرداً على الأشكال الشعرية القديمة. فهو تجاوز وتخط يسايران تخطي عصرنا الحاضر وتجاوزه للعصور الماضية. أن نرى في الكون ما تحجبه عنا الالفة والعادة، أن نكتشف علائق خفية، وأن نستعمل لغة ومجموعة من المشاعر والتداعيات الملائمة للتعبير عن هذا كله. تلك هي بعض مهمات الشعر الجديد. وهذا هو امتيازه في الخروج من التقليدية. فقوام الشعر الجديد معنى خلاق توليدي، لا معنى سردي وصفي. إنه كما يقول الشاعر الفرنسي المعاصر رينيه شار: "الكشف عن عالم يظل أبداً في حاجة إلى الكشف".
ولذلك فإن من خصائصه أن يعبر عن قلق الإنسان، أبدياً. والشاعر الجديد، والحالة هذه، متفرد، متميز في الخلق، وفي مجال انهماكاته الخاصة كشاعر. وشعره مركز استقطاب لمشكلات كيانية يعانيها في حضارته وأمته، وفي نفسه هو بالذات.
هكذا يمكننا القول إن الشعر الجديد هو نوع من المعرفة التي لها قوانينها الخاصة في معزل عن قوانين العلم. إنه إحساس شامل بحضورنا. وهو دعوة لوضع معنى الظواهر من جديد، موضع البحث والتساؤل. وهو، لذلك، يصدر عن حساسية ميتافيزيائية، تحس الأشياء إحساساً كشفياً، الشعر الجديد، من هذه الوجهة، هو ميتافيزياء الكيان الإنساني.
من هنا يتجه الشعر الجديد إلى التخلي عن الأمور التالية:
أولاً-إنه يتخلى عن الحادثة. إذ إن هناك تنافراً بين الحادثة والشعر. فعلى الشاعر الحق أن يتناول من مظاهر العصر أكثرها ثباتاً وديمومة. ذلك أن الشعر العظيم يتجه نحو المستقبل. ثم إن الشعر أقل الفنون حاجة إلى الارتباط بالزمان والمكان، لأنه في غير حاجة إلى مواد محسوسة، ولا علاقة لنموه وموته بنمو المدنيات وموتها.
ثانياً- وإذ يتخلى الشعر الجديد عن الحادثة، يبطل أن يكون شعر "وقائع"، أو شعراً "واقعياً" بالمعنى الشائع لهذه الكلمة، أي الاقتراب من النثر العادي، واستخدام الكلمات وفقاً لدلالاتها المألوفة. وهذا نقيض للشعر الحق الذي يفرغ الكلمة من ثقلها العتيق المظلم، ويشحنها بدلالة جديدة غير مألوفة. هناك تناقض بين الشعر و "الواقعية" كما يفهمها بعض شعرائنا المعاصرين: فالشعر، بحسب هذه "الواقعية" يتناول أفكار وآراء شائعة، مسبقة، قاصراً دوره على نظمها، على تصنيفها وعرضها في إيقاعات. غير أن جوهر الشعر الجديد قائم على ما يتجاوز هذا النوع من "الواقعية". إنه يغير إيقاع "نقل" الواقع بإيقاع "إبداعه"، ويجد واقعاً أغنى وراء "وقائع" العالم. هكذا ينبغي على الشاعر المعاصر، لكي يكون جديداً حقاً، أن يتخلص من كل شيء مسبق، ومن الآراء المشتركة جميعاً، إن القصيدة العظيمة حركة، لا سكون وليس مقياس عظمتها في مدى عكسها أو تصويرها لمختلف الأشياء والمظاهر "الواقعية"، بل مدى إسهامها بإضافة جديد ما إلى هذا العالم.
ثالثاً- ويتخلى الشعر الجديد، أيضاً، عن الجزئية، فلا يمكن الشعر أن يكون عظيماً إلا إذا لمحنا وراءه رؤيا للعالم. لا يجوز أن تكون هذه الرؤيا منطقية، أو أن تكشف عن رغبة مباشرة في الإصلاح، أو أن تكون عرضاً لأيديولوجية ما، رغم أن الشعر الجديد متداخل مع جميع حقول الفكر. إن الشعر –الأغنية، الشعر الوقائع الصغيرة، الشعر- الوصف، نقيض للشعر بمعناه الجديد من حيث أنه لا يقوم على كلية التجربة الإنسانية. ولعل أهزل الآثار الشعرية، بالمقياس الجديد، هي غالباً الآثار التي لا تكشف إلا عقد الشاعر أو ظروفه الاجتماعية الشخصية، فالأثر الشعري الذي لا يكون بالنسبة للشاعر وللقارئ إلا شكلاً من أشكال "المديح" أو "الهجاء" هو، في الحقيقة، كما يقول (مالرو) ضد الشعر. ومن المؤكد أن الشاعر يعاني أزمات نفسية ويحس بوطأة آلامها. إلا أن معجزة الشعر هي، على وجه الدقة، أن لا يعكس هذه المعطيات وحسب، بل أن يتجاوزها. ليس الأثر الشعري انعكاساً، بل هو فتح. وليس الشعر رسماً، بل هو خلق. هكذا يمكن الكلام على العاطفة والانفعال الشعريين، شريطة أن لا نعني بهما، لحظة ذاتية جزئية، كما كانا في معظم الشعر العربي التقليدي، بل أن نعني بهما شرطاً لاكتشاف جوهري، بحيث أن العاطفة تصبح ذاتية وموضوعية، فردية وكونية في آن.
رابعاً- ويتخلى الشعر الجديد عن الرؤية الأفقية، ففي معظم شعرنا المعاصر والقديم، تبدو الحياة مشهداً، أو ريفاً، أو نزهة. فهو ينظر إلى الأشياء باعتبارها أشكالاً، أو وظائف.
ولذلك تبدو فيه العلاقة بين الإنسان والعالم علاقة شكلية. كان بعضهم يحاولون عن طريق الإحكام البلاغي أن يتغلبوا على أفقية الرؤية، فيغرقون في شعر يتمترس وراء "بستان" الألفاظ، ويتغطى بزخارفها، فتركوا لنا القصيدة- اللعبة، أو القصيدة- الحلية، وحاول بعضهم الآخر أن يتغلبوا على هذه الأفقية بكابوس من "التشبيهات" أو "الأفكار" التي تتزاحم للجري وراء الواقع والحياة. وأن "نصور" أو "نفكر" في الشعر يعني أن نجعل العالم قابلاً لأن يدركه "الحس" أو "العقل" ولكننا نظل هنا في سطح العالم. وبالشعر الجديد نتجاوز السطح لنغوص في الأشياء وراء ظواهرها، حيث يمكننا أن نرى العالم في حيويته وبكارته وطاقاته على التجدد، وأن نتحد معه. لا تبحث في القصيدة الجديدة عن الصورة أو الفكرة بحد ذاتها، بل عن الكون الشعري فيها، وعن صلتها بالإنسان ووضعه. وحاول بعضهم الآخر أن يعطوا هذه الأفقية بعداً رومانسياً، ولكن شعرهم ظل وصفياً في جوهره، لأن الكلمة فيه تفرغ من شحنتها لحظة النطق بها، فهي لا تشع، وغير موحية.
خامساً- ويتخلى الشعر الجديد عن التفكك البنائي، فنحن نرى في معظم القصائد المعاصرة تشققاً في هيكلها ووحدتها. هناك "مضمونات" قد تعد حديثة، تاريخياً، ولكن التعبير عنها تعبير قديم، يقوم على الخطابية، خطابية الفكرة حيناً، وخطابية العاطفة حيناً آخر، وعلى التركيب المباشر، وعلى الأوصاف والنعوت والاستعارات التي تخلى عنها الشعر الجديد، واستعاض عنها بالصورة التركيبية: الصورة- الرمز، أو الصورة- الشيء. وهناك أساليب حديثة، تاريخياً، إلا أن مضموناتها قديمة، لأنها في ذروة ما توصف به "مدح" ناجح، أو "هجاء" ناجح، أو "رثاء" ناجح.
***
ونصل الآن إلى السؤال الأساسي: ما حقيقة الحداثة؟.
وليس الجواب سهلاً. فالحداثة، في المجتمع العربي، إشكالية معقدة، لا من حيث علاقاته بالغرب فحسب، بل من حيث تاريخه الخاص أيضاً. والواقع أن الحداثة الشعرية العربية لا تقيم إلا بمقاييس مستمدة من إشكالية القديم والمحدث في التراث العربي، ومن التطور الحضاري العربي، ومن الصراع المتعدد الوجوه والمستويات الذي يخوضه العرب اليوم.
لقد حاول الشاعر ستيفن سبندر في كتابه (نضال الحديث) أن يضع حدوداً مميزة للحداثة، وأخرى للمعاصرة. وأن يضبط هذين المصطلحين ضبطاً تاماً. فوصل إلى أن الحداثة مسألة تتعلق بالشكل والتقنية. أما المعاصرة فهي مفهوم سياسي بالدرجة الأولى. ولا ريب في هذا التمييز هو اجتهاد شخصي.
وفي ثقافتنا العربية المعاصرة تختلط مفاهيم عديدة في موضوع الحداثة، من مثل: التجريب، والتجديد، والتحديث، والطليعية، والمعاصرة، والتجاوز... الخ. وما ينبغي هو ضبط هذه المصطلحات جميعاً، والتمييز بين كونها مفاهيم زمنية، أو مفاهيم قيمية.
(التجريب، والحداثة) مصطلحان نقديان محايدان، ولا يمكن أن يكونا قيمتين إيجابيتين مطلقتين في حد ذاتهما. وبعبارة أخرى فإن هناك تجريباً يخفق في تحقيق قيمة إيجابية مقابل تجريب آخر يحقق نجاحاً ويثبت قيماً فنية جديدة. ولا ريب أن هذا المعنى للتجريب متضمن في المعنى اللغوي للمصطلح. إلا أن مفهوم (التجريب) في الثقافة العربية المعاصرة قد أخذ يكتسب دلالات عاطفية، أي أنه أخذ يكرس في حد ذاته باعتباره قيمة أثيرة يفاضل بينها وبين التيارات المستقرة في الأدب. ولكن المفاضلة كثيراً ما تفترض افتراضاً جزافياً مفاده أن طرفي المعادلة يحققان الحد الأقصى من القيم التي يعبران عنها. وبالتالي فإن التجريب يقوم هنا على أساس أنه تجربة متبلورة وناجزة. وكذلك الأمر بالنسبة للحداثة. فالتجريب والحداثة مرتبطان عادة بقيمة أساسية هي الابتكار، سواء فيما يتعلق بالشكل، أو بالتقنية، أو بالرؤية الشاملة، أو بمادة العمل الفني، وعلى ذلك فإن التجريب والحداثة ليسا وقفاً على فترة من الفترات، ولا وقفاً على المرحلة الراهنة من حياتنا الأدبية(7).
و (الطليعية) العربية ما تزال مجموعة جيوب مبعثرة، تنتمي إلى تواريخ زمنية مختلفة. وبالتالي فإن من المتعذر الحديث عن أجيال فنية تتبلور القيم الطليعية العربية من خلال صراعها. وذلك هو الإحراج الحقيقي.
فإذا كانت الطليعية تمثل المجموعة المتقدمة التي تستطلع للقوات المتحركة، وتمهد لها جغرافية المكان وتوقيت الزمان، فإن الطليعية العربية اكتفت بالتقدم دون أن يسهم هذا التقدم الاستطلاعي في تحريك القوات. ذلك أنها لم تخلق سياعاتها الخاصة، كما أنها لم تصنع قارئها المتلقي، كما ينبغي أن يكون.
و(الحداثة) عند جبرا إبراهيم جبرا- أحد نقاد وشعراء قصيدة النثر- هي أن تجد الطريق لكي تكون مساهماً فاعلاً في حضارة هذا القرن. لذلك فأنت مطالب بالتمرد، ومطالب بأن يكون في تمردك ما يستمد بعض حيويته من جذورك. وتضيف إليه من أصالتك المتجهة نحو زمانك. فتصبح جزءاً فاعلاً في عصرك، جزءاً غير منقطع عن ماضيك. ولكنه جزء لا يكرر ماضيك، ويحفزه التحرر حتى من حاضرك. أنا لا أقول بالانقطاع المطلق. فأنا أؤمن أن للتراث قوة هائلة في حياتنا. ويجب أن تبقى له هذه القوة المغذية للنفس. لكني أقول خذ من التراث ما هو حي، وأترك ما هو ميت للأكاديميين الذين يقول عنهم رامبو أنهم أموات أكثر من أي متحجر(8).
***
إذن، فالحداثة هي محاولة تركيب بين التراث والتجديد، والأصالة والمعاصرة. هي استمرار للتجديد الذي بدأت طلائعه في الشعر العربي، منذ أوائل العصر العباسي. واستمر في مدارس التجديد الشعرية الحديثة (الكلاسيكية الجديدة، والرومانسية، والرمزية.. الخ).
حيث ازدوج هذان التياران: التراثي، والحداثي في شعر هذه المدارس الحديثة، وتمثل، ثم أعيد إبداعه شعراً جديداً على مثال النتاج الشعري لهذه المدارس.
وغير بعيد عن هذا التعريف تعريف أدونيس للحداثة، فهي عنده أن تقبل الحوار مع الآخر. تتبدل الحداثة في العالم العربي عند الشعراء الذين عرفوا كيف يرفضون قوقعة تراثهم. ولم يخشوا وضع أنفسهم في موضع الإصغاء للثقافات الأخرى، الحداثة أن تفكر مجدداً بتراثك، فتنفتح بالفعل ذاته على التراثات الأخرى، دون محاكاة أو تنازل عن أصالتك(9).
هكذا تبدو الفكرة الأساسية في نزعة الحداثة كامنة في إدراك التماثل بين الطبيعة واللغة. وقد بدأ هذا الإدراك أبو نواس، وأبو تمام، وبعض الشعراء الصوفيين، وبخاصة النفري. لم تعد الطبيعة، بدءاً منهم، مجموعة من الأشياء المخلوقة، وإنما أصبحت مجموعة من الإشارات. أي أنها تحولت إلى غاية من الرموز. هكذا أحدث هؤلاء انفجاراً خلخل بنية التعبير الشعري. وقد تعمق اليوم هذا الانفجار بحيث أدت الخلخلة التي أحدثها إلى تغير في معنى الشعر وفي طبيعته. ومن هنا تغيرت منظورات كثيرة: (10).
1-لم يعد الشعر مجرد إرضاء لحاجة الآخر (الجمهور)، فقد نشأت حاجة جديدة:
البحث، ومقياس البحث هو في ما يفتحه أو يكشف عنه. إما إرضاء حاجة الجمهور فمقياس تطبيقي. ونجاح التطبيق تابع لمدى ثقافة الجمهور الفنية. وهذه ثقافة لا يخلقها الشعر، بل يخلقها النظام التربوي- التعليمي. ووجودها شرط لفهم الشعر والفن بشكل عام.
2-بدلاً من إبداع يسوغ نفسه بالماضي وقيمه، نهض إبداع يتأسس على تنظيم الحاضر، واستكشاف المستقبل. ولا يجد مسوغاته في الماضي، وإنما يجده في الطاقة التي تفتح أبعاد المستقبل.
3-بدلاً من أن نقرأ الحاضر في ضوء الماضي، أصبحنا، على العكس، نقرأ الماضي في ضوء الحاضر. هكذا أصبحت قراءتنا تحويلية: تكشف فعالية الشعر الخلاقة، وعلاقاتها الأساسية.
مثلاً نقرأ اليوم امرأ القيس أو أبا تمام في ضوء بدر شاكر السياب فنرى فيهما عالماً غنياً آخر لم يكن معروفاً.
4-وحدث انقلاب آخر على مستوى النقد. فالمفهوم النقدي التقليدي لا يقبل إلا الشعر الذي يتوافق مع الموروث وأصوله. أما المفهوم النقدي الذي ينشأ في مناخ الحداثة فإنه يؤسس معايير نقدية تنظر إلى الشعر في ذاته، ويقومه، تبعاً لذلك، بمقاييس من داخله، من تطور التعبير الشعري بالذات.
5-وفي ضوء الحداثة، بالمعنى الذي أشير إليه، يبدو مضحكاً القول إن بداية الشعر العربي الحديث قامت على تغيير في نسق التفعيلة. الحداثة هي انقلاب شامل. ليس وجود التفعيلة فيه أو عدم وجودها إلا أمراً ثانوياً جداً.
من هنا يميز أدونيس بين نوعين من الحداثة، الأولى ظاهرية، سياسية بالمعنى المباشر اليومي، والثانية عميقة بمعنى بناء الإنسان وحياته بناء كاملاً وكلياً. شعراء الحداثة بالمعنى الأول يضيعون في وهم التحركات والإنجازات الصغيرة، لذلك يسقطون في التفاؤلية السطحية للالتقاء بالذات، ويصبح شعرهم نوعاً من الامتداح والتبشير، وهم في هذا يضيفون إلى حالة الاستلاب الأصلية حالة أخرى أشد خطورة، هي حالة التوهم بأنهم تجاوزوا الاستلاب. ومثل هذه الحالة تنقلب إلى كذب شامل: على الذات، وعلى الواقع، وعلى المستقبل.
أما شعراء الحداثة، بالمعنى الثاني، فإن شعرهم، يستلب القارئ العربي من استلابه، ومن هنا صعوبته المؤقتة، وانفصاله المؤقت عن الجمهور. فالفرق بين الشعر الحديث بهذا المعنى، والشعر الحديث بالمعنى الأول، هو أن هذا الأخير يبقي القراء داخل نفوسهم، ضمن استلابهم، وهو يجاري هذه الاستلابات. أما الشعر الحديث بالمعنى الثاني، فيقتلع القراء، ويقذف بهم خارج نفوسهم. أي أنه يعاكس استلابهم. وفي حين يعبر شعراء الحداثة السطحية المباشرة عن أفكار ومشاعر يفرزها الاغتراب، بلغة مشحونة بهذه الإفرازات الاغترابية، فإن شعراء الحداثة العميقة يفرغون الله من شحنتها هذه، ويضعون القارئ أمام هاوية لا يرى فيها عادة أو تقليداً أو أي إفراز استلابي، وإنما يرى فيها ذاته العملية الأصيلة، ولكثرة ما هو القارئ العربي مستلب، تعود أن لا يرى في نفسه ذاته، بل غيره(11).
من هنا يمكن القول أن الحداثة، بشكل عام، على ثلاثة أنواع: حداثة علمية، وحداثة ثورية (اقتصادية، سياسية، اجتماعية)، وحداثة فنية. فإذا كانت الحداثة العلمية هي إعادة النظر المستمرة في معرفة الطبيعة، للسيطرة عليها. والحداثة الثورية تعني نشوء حركات ونظريات ومؤسسات وأنظمة حديثة تؤدي إلى زوال البنى التقليدية في المجتمع، فإن الحداثة الفنية هي تساؤل جذري، يستكشف اللغة، ويستقصيها، ويفتح آفاق تجريبية جديدة في الممارسة الكتابية.
وتشترك هذه المستويات جميعاً في خصيصة أساسية هي أن الحداثة رؤيا جديدة. وهي، جوهرياً، رؤيا تساؤل واحتجاج: تساؤل حول الممكن، واحتجاج على السائد. فلحظة الحداثة هي لحظة التوتر، أي التناقض والتصادم بين البنى السائدة في المجتمع، وما تتطلبه حركته العميقة التغييرية من البنى التي تستجيب لها وتتلاءم معها.
ما مدى حضور هذه المستويات، وما مدى فاعليتها في الحياة العربية؟ ليس في المجتمع العربي حداثة علمية. وحداثة التغييرات الثورية (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية) هامشية لم تلامس البنى العميقة. لكن، مع ذلك، وتلك هي المفارقة، هناك حداثة شعرية عربية.
وتبدو هذه المفارقة كبيرة حين نلاحظ أن الحداثة الشعرية في المجتمع العربي تكاد أن تضارع، في بعض وجوهها، الحداثة الشعرية الغربية. ومن الطريف أن نلاحظ، كما يقول أدونيس، أن حداثة العلم في الغرب متقدمة على حداثة الشعر، بينما نرى العكس في المجتمع العربي، فحداثة الشعر متقدمة على الحداثة العلمية والثورية. ومن هنا تبدو الحداثة الشعرية العربية لكثير من العرب وكأنها جسم غريب مستعار. وفي هذا ما قد يفسر أسباب عدائهم لها، ورفضهم إياها، ورمي ممثليها بمختلف التهم التي تبدأ بالغموض، وتنتهي بتهمة تقليد الغرب، مروراً بتهمة هدم التراث أو التنكر له(12).
وقد نشأت إشكالية الحداثة الشعرية العربية كخروج على محاكاة النموذج القديم، أي نموذج النظم كما تمثله القصيدة الجاهلية، والذي سمي في المصطلح النقدي بـ "عمود الشعر" ويتضمن هذا الخروج تمرداً على معيارية ترسخت قيمياً وفنياً، واتخذت طابعاً ثقافياً اجتماعياً ذا بعد سلطوي. لكن الشعر الجديد نشأ بفعل الضرورة التي فرضتها المرحلة التاريخية الحضارية، وليس بمجرد الرغبة في معارضة القديم. فهذه المرحلة المعاصرة واجهت الشاعر بأسئلة وبمشكلات فرضت عليه أن يعيد النظر في اللغة الشعرية القديمة، وفي طرق التعبير المألوفة.
وإذن فالجديد لم ينشأ إلا بنوع من التعارض مع القديم من جهة، وبنوع من التفاعل مع الغرب من جهة ثانية. وهذا ما تنطق به الحضارة العربية في عصرها الذهبي، فالثقافة العربية في العصر العباسي هي جسد مغاير للجسد الثقافي الجاهلي، لأنها مزيج تأليفي من الجاهلية والإسلام تراثياً، ومن الآخر (الهند، وفارس، واليونان) تفاعلياً. بالإضافة إلى العناصر الأكثر قدماً: سومر، وبابل، وآشور في صورها الآرامية- السريانية. وفي هذا أعطت الفاعلية الإبداعية العربية المثل النموذجي الأول لالتقاء الثقافات وتفاعلها. وأنه لا يمكن أن تقوم لشعب ما ثقافة بذاتها، ولذاتها، بمعزل عن ثقافات الشعوب الأخرى، فثقافة كل شعب حضاري إنما هي تأثر وتأثير، أخذ وعطاء، حركة من التفاعل. وقد أعطت الحضارة العربية المثل الآخر، وهو أن شرط هذا التفاعل أن يتسم بالإبداعية والخصوصية في آن. ونقل العرب هذا المزيج التأليفي الإبداعي الخصوصي، في ذروته العليا، إلى الآخر (الغرب) عبر الأندلس.
فالحداثة، إذن، هي التغاير، وهي الخروج من النمطية، والرغبة الدائمة في خلق المغاير. والحداثة، في هذا المستوى، ليست ابتكاراً غريباً، فقد عرفها الشعر العربي منذ القرن الثامن، أي قبل بودلير ومالارميه ورامبو بحوالي عشرة قرون. وهي لذلك ليست "مستوردة"، وليست "خطراً"، وإنما هي ظاهرة أصيلة عميقة في حركة الشعر العربي. ويمكن التأريخ للشعر العربي بدءاً من بشار بن برد من زاوية هذا الصراع أو "الجدل" بين "القديم"، و "المحدث". وهذا هو التاريخ الحقيقي للشعر، عند العرب، وهو التاريخ الذي لم يكتسب بعد.
الحداثة، إذن، ملازمة للقدم في كل مجتمع وفي كل مرحلة. وهي لا تبحث في المطلق كمفهوم مطلق، وإنما هي دائماً حداثة شعر معين في شعب معين، وفي أوضاع تاريخية معينة. والحديث في هذا الشعب ينشأ من القديم فيه. صحيح أن "الأخذ" يغني، لكنه إذا اقتصر على الأخذ وحده لا يلبث أن يموت، لأنه لا يتوالد، ولأنه ليس نتاج الذات، بل هو نتاج الآخر. والقديم إذا لم يتفجر ويتوالد ويتجاوز نفسه، لا يلبث أيضاً أن يتحجر ويفقد نفسه الحي. الحداثة، في هذا المنظور، هي الاختلاف في الائتلاف. الاختلاف من أجل القدرة على التكيف وفقاً للتغيرات الحضارية والتقدم. والائتلاف من أجل التأصل والمقاومة والخصوصية. الاختلاف المفرط عن تراث اللغة التي يكتب بها الشاعر هو الموت، أي التبخر كالدخان بالقياس إلى نار هذه وجمرها.
الائتلاف المفرط هو الموت أيضاً، أي التخثر كالحجر، كأن الحداثة أن تخلق النظام فيما تمارس الفوضى، أو كأنها أن تجرح في ما تلائم(13).
وعلى هذا تبدو الحداثة صراعاً دائماً. وهي تأخذ في المجتمع طابعاً حاداً أو هادئاً، جذرياً أو اصطلاحياً، بحسب ظروف المجتمع وأوضاعه. ومن هنا تبدو الحداثة حركة دائمة إلى الأمام في قديم يحاول أن يكون حركة دائمة إلى الوراء.
وإنه ليمكن اختصار معنى الحداثة في أنه التوكيد المطلق على أولية التعبير، أي أن طريقة القول أو كيفيته هي أكثر أهمية من الشيء المقول. وإن شعرية القصيدة أو فنيتها هي في بنيتها لا في وظيفتها. وهذا يتضمن نتيجة أساسية هي أن قيمة الشعر ليست في مضمونه بحد ذاته، سواء كان واقعياً أو مثالياً، تقدمياً أو رجعياً، وإنما في كيفية التعبير عن هذا المضمون، فقد يكتب شاعر عن موت شهيد ثوري قصيدة، ويكتب شاعر آخر قصيدة أخرى عن موت عصفور، ومع أن الموضوع الأول أنبل وأسمى، فقد تكون القصيدة الثانية أغنى وأجمل. ولكن هذا لا يعني أن القصائد التي تدور حول موضوعات من النوع الأول هي بالضرورة، قصائد رديئة، بل يعني أن المهم هو الشاعر وكيفية تعبيره، وليس الموضوع بحد ذاته(14).
***
ورغم هذا فإنه ينبغي التمييز دوماً بين الجديد و "الجديد" بين البدعة والإبداع، بين الزي والحداثة. ومن هنا يحذر أدونيس(15) من أوهام الحداثة، التي تتداولها الأوساط الشعرية العربية، وتكاد، على المستوى الصحفي الإعلامي، أن تخرج بالحداثة عن مدارها، عدا أنها تفسد الرؤية وتشوه التقييم، ولعل هذه الأوهام تتمثل في ما يلي:
أولاً- الزمنية، فهناك من يميل إلى ربط الحداثة بالعصر، بالراهن من الوقت، من حيث إنه الإطار المباشر الذي يحتضن حركة التغير والتقدم أو الانفصال عن الزمن القديم. والتقاط هذه الحركة شعرياً، أي رصدها وفهمها والتعبير عنها، دليل كاف بحسب هذا الميل، على الحداثة، ومن الواضح أن هؤلاء ينظرون إلى الزمن على أنه نوع من القفز المتواصل، وعلى أن ما يحدث الآن متقدم على ما حدث غابراً، وعلى أن الغد متقدم على الآن. والواقع أن هذه نظرة شكلية تجريدية، تلحق النص الشعري بالزمن، فتؤكد على اللحظة الزمنية، لا على النص بذاته، وعلى حضور شخص الشاعر، لا على حضور قوله. وهي، من هنا، تؤكد على السطح، لا على العمق، وتتضمن القول بأفضلية النص الراهن، إطلاقاً، على النص القديم. وخطأ هذه النظرة كامن في تحويل الشعر إلى زي، أعني أنه كامن في إغفالها أمراً جوهرياً هو أن حداثة الإبداع الشعري غير متساوقة مع حداثة الزمن. فإن من الحداثة ما يكون ضد الزمن كلحظة راهنة، ومنها ما يستبقه، ومنها ما يتجاوزه أيضاً. فحين يهزنا اليوم شعر امرؤ القيس مثلاً، أو المتنبي، فليس لأنه ماض عظيم، بل لأنه –إبداعياً- يمثل لحظة اختراق الأزمنة. فالإبداع حضور دائم. وهو –بكونه حضوراً دائماً- حديث دائماً.
ومعنى ذلك أن ثمة شعراً كتب في زمن ماض ولا يزال –مع ذلك- حديثاً، فالشعر لا يكتسب حداثته بالضرورة من مجرد زمنيته، وإنما الحداثة خصيصة تكمن في بنيته ذاتها. ويمكن القول، في أفق هذا المنظور، أن امرأ القيس مثلاً، هو في كثير من شعره أكثر حداثة من شوقي في شعره كله، وأن في شعر أبي تمام، مثلاً، حساسية حديثة ورؤيا فنية حديثة لا تتوافر عند نازك الملائكة.
الوهم الثاني هو ما يمكن أن يسمى بوهم المغايرة. وأصحاب هذا القول يرون أن التغاير مع القديم، في الموضوعات والأساليب، هو الحداثة، أو الدليل عليها، وينتج عن هذا الوهم القول بآراء حول بنية القصيدة، وحول الوزن ووحدته الإيقاعية، وحول مضموناتها، تغاير آراء النقاد القدامى. ويكفي الشاعر في منظور هذا الوهم أن يصنع قصيدة تغاير، بموضوعها وشكلها، القصيدة الجاهلية أو العباسية، لكي يكون حديثاً. وهذه نظرة آلية تقوم على فكرة إنتاج النقيض. وهي شأن النظرة السابقة، تحيل الإبداع إلى لعبة في التضاد. تلك تضاد الزمن بالزمن. وهذه تضاد النص بالنص. وهكذا يصبح الشعر تموجاً ينفي بعضه بعضاً، مما يبطل معنى الشعر ومعنى الإبداع على السواء.
الوهم الثالث يمكن تسميته بوهم المماثلة، ففي رأي بعضهم أن الغرب مصدر الحداثة، اليوم، بمستوياتها المادية والفكرية والفنية، وتبعاً لهذا الرأي، لا تكون الحداثة، خارج الغرب إلا في التماثل معه. ومن هنا ينشأ وهم معياري تصبح فيه مقاييس الحداثة في الغرب مقاييس للحداثة خارج الغرب. وهذه نظرة تصدر عن إقرار مسبق بتفوق الغرب، ولهذا فإن أصحابها والدائرين في فلكها ينعون دائماً على الشعر العربي تخلفه وتقصيره عن اللحاق بالشعر الغربي، كما ينعون على الحياة العربية، إجمالاً، تخلفها وتقصيرها عن الحياة الغربية.
لكن ألا تبدو المماثلة هنا استلاباً كاملاً، أي ضياعاً في الآخر حتى الذوبان؟ الحق أن شعر المماثلة مع الخارج المحتذى ليس إلا الوجه الأكثر إغراقاً في ضياع الذات لشعر المماثلة مع الموروث التقليدي المحتذى. فالعربي الذي ينتج اليوم شعراً لمحاكاة القديم، إنما يعيد إنتاج الوهم الأسطوري- التراثي، ولا يبدع شعر ذاتيته الواقعية الحية. والعربي الذي يكتب اليوم شعر المماثلة مع الآخر. إن الممارسة الشعرية هنا وهناك إنما هي استلاب. لذلك تقتضي الحداثة قطعاً مع التأسلف ومع التمغرب في آن، من أجل كتابة الذات الواقعية الحية، وقد وعت فرادتها وخصوصيتها إزاء الآخر، وتمثلت بنقد جذري إبداعي، أسطورتها الذاتية- الأبوية، وتجاوزتها إلى أبعاد جديدة.
الوهم الرابع فني، ويرتبط بوهم التشكيل النثري، ووهم الاستحداث المضموني. وهما رائجان اليوم. وهم النثر هو استغراق في المغايرة- المماثلة، ووهم المضمون استغراق في الزمنية، من الناحية الأولى يرى بعض الذين يمارسون كتابة الشعر نثراً إن الكتابة بالنثر، من حيث هي تماثل كامل مع الكتابة الشعرية الغربية، وتغاير كامل مع الكتابة الشعرية العربية، إنما هي ذروة الحداثة. ويذهبون في رأيهم إلى القول بنفي الوزن، ناظرين إليه كرمز لقديم يناقض الحديث.
وهؤلاء لا يؤكدون على الشعر بقدر ما يؤكدون على الأداة. والنثر، كالوزن أداة، ولا يحقق استخدامه، بذاته، الشعر. فكما أننا نعرف كتابة بالوزن لا شعر فيها، فإننا نعرف أيضاً كتابة بالنثر لا شعر فيها، بل إن معظم النثر الذي يكتب اليوم على أنه شعر لا يكشف عن رؤية تقليدية وحساسية تقليدية وحسب، وإنما يكشف أيضاً عن بنية تعبيرية. وهو، لذلك، ليس شعراً ولا علاقة له بالحداثة. وهذا ما ينطبق أيضاً على معظم الشعر الذي يكتب اليوم وزناً.
ولعلنا نعرف جميعاً أن (قصيدة النثر)، وهو مصطلح أطلقته جماعة مجلة (شعر) إنما هي، كنوع أدبي وشعري، نتيجة لتطور تعبيري في الكتابة الأدبية الأمريكية- الأوربية. ولهذا فإن كتابة قصيدة نثر عربية أصيلة تفترض، بل تحتم الانطلاق من فهم التراث العربي الكتابي، واستيعابه بشكل عميق وشامل، ويحتم من ثم، تجديد النظرة إليه، وتأصيله في أعماق خبرتنا الكتابية- اللغوية، وفي ثقافتنا الحاضرة، وهذا ما لم يفعله الأقلة، حتى إن ما يكتبه هؤلاء القلة لا يزال تجريبياً، فكيف يكون الأمر، والحالة هذه، مع الذين يقتنصون هذا التجريب، ويعرشون عليه، بانقطاع كامل عن لغة الكتابة الشعرية العربية، في عبقريتها الخاصة، وفي نشأتها ونموها وتطوراتها.
وأخيراً، يزعم بعضهم، انسياقاً وراء وهم استحداث المضمون، إن كل نص شعري يتناول إنجازات العصر وقضاياه هو، بالضرورة، نص حديث. وهذا زعم متهافت. فقد يتناول الشاعر هذه الإنجازات، وهذه القضايا برؤيا تقليدية، ومقاربة فنية تقليدية، كما فعل الزهاوي والرصافي وشوقي، تمثيلاً لا حصراً، وكما يفعل اليوم بعض الشعراء، باسم بعض النظريات المذهبية الأيديولوجية. فكما أن حداثة النص الشعري ليست في مجرد زمنيته، أو مجرد تشكيليته، فإنها كذلك ليست في مجرد مضمونيته.
تلك هي أوهام لا يصح الكلام عن الحداثة الشعرية العربية إلا بدءاً من نقضها وإبطالها. ولا بد، في هذا السياق، من الإشارة إلى ظاهرة شبه مرضية في الوسط الثقافي العربي هي ظاهرة اتهام الشاعر العربي الحديث بتقليد الحداثة الغربية، وتقليد شعرائها، وبنقل مفهوماتها، والحكم –تبعاً لذلك- على الحداثة الشعرية العربية، بأنها غير "أصيلة"، وليست لها قيمة شعرية أو فنية. وغالباً ما يكون هذا الحكم قائماً على الاجتراء، وعلى الجهل بالشعر الغربي، والشعر العربي معاً.
بودلير، مالارميه: إنهما نظرياً وشعرياً أساس الحداثة في الشعر الفرنسي، لكنهما لم يأخذا مفهوم الحداثة من "التراث" الفرنسي، وإنما أخذاه من الولايات المتحدة، من ادغار ألن بو.
أكثر من ذلك: أن مدار آرائهما في الشعر هو نفسه مدار آرائه، حتى أنهما يتبنيان أفكاره نفسها. رامبو: أليس شعره مليئاً باقتباسات وأفكار وأقوال يأخذها من مصادر متنوعة وفي مقدمتها المصادر الشرقية؟، واقرأوا دانتي أو شكسبير أو غوته: ألا تجدون في نتاجهم عبارات وأفكاراً وآراء مأخوذة من تراث شعوب مختلفة ونتاج شعراء مختلفين؟ كذلك يمكن القول بالنسبة إلى هولديرلن ونرفال وشاروميشو وجوف وسان جون بيرس، لكي لا نسمي إلا عدداً من الكبار.
وماياكوفسكي؟ هل أخذ مفهوم الحداثة الشعرية من التراث الروسي، أم أن أخذه، على العكس من بودلير ورامبو ومالارميه؟ كذلك اليوت: لم يأخذ مفهوم الحداثة من التراث الإنكليزي، وإنما أخذه من بودلير ولافورغ وكوربيير. فهل هناك قارئ ناقد يقيم أحداً من هؤلاء بما "أخذه" عن غيره؟. أو يقول عنه أنه خرج على تراثه؟ ثم أليس من المسكنة العقلية، حين نتحدث عن هؤلاء، أن نقف عند فكرة أو عبارة اقتبسوها، ونتهمهم بأنهم سارقون، مقلدون؟.
وما يصح على هؤلاء يصح على شعرائنا العرب: أبي نواس وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء، لكي لا نسمي أيضاً إلا عدداً من الكبار. لقد أدخل هؤلاء ما أخذوه واقتبسوه في نسق مغاير خاص، وصهره كل منهم في نظام من العلاقات متميز وخاص به. وإنه لجهل كامل بالشعر، أن نجتزئ، حين ننقدهم فكرة من هنا وقولاً من هناك، داخل نتاجهم ونصور أحكامنا عليهم، وإنما يجب أن نكتشف النسق العام لهذا النتاج ونظام علاقاته، ومن ثم نصدر أحكامنا.
ينبغي على القارئ/ الناقد، أن يواجه في تقييم شاعر ما ثلاثة مستويات: مستوى النظرة أو الرؤيا، ومستوى بنية التع
محب العلماء- عضو ممتاز
- عدد المساهمات : 226
نقاط : 6005
تاريخ التسجيل : 07/02/2010
مواضيع مماثلة
» الحداثة الشعرية - انتقاء محب العلماء
» القصيدة المعاصرة وتحديات الحداثة ـــ أحمد حيدوش- انتقاء محب العلماء
» قصيدة النثر: نزوعات ما بعد الحداثة
» مأزق الشعرية .. بحث
» الصورة الشعرية بين إبداع القدامى وابتداع المحدثين
» القصيدة المعاصرة وتحديات الحداثة ـــ أحمد حيدوش- انتقاء محب العلماء
» قصيدة النثر: نزوعات ما بعد الحداثة
» مأزق الشعرية .. بحث
» الصورة الشعرية بين إبداع القدامى وابتداع المحدثين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأربعاء 20 ديسمبر 2023, 10:55 من طرف مدير المنتدى
» العدد الثالث من مجلة " آفاق علمية "
الأحد 01 أغسطس 2021, 10:21 من طرف Houcine22
» الشاعر منتميا وملتزما
الأحد 14 أكتوبر 2018, 20:12 من طرف مدير المنتدى
» العرب وكرة القدم
الإثنين 02 يوليو 2018, 20:10 من طرف مدير المنتدى
» الخامس من يوليو (جويلية) مجددا
الإثنين 02 يوليو 2018, 19:42 من طرف مدير المنتدى
» أهلا بشهر التوبة والغفران
الأربعاء 07 يونيو 2017, 11:21 من طرف أسير القافية
» لو عثرت بغلة في العراق ...
الجمعة 03 مارس 2017, 20:17 من طرف أسير القافية
» مسابقة الدخول إلى مدرسة الدكتوراه بتامنغست
الخميس 06 أكتوبر 2016, 16:21 من طرف أسير القافية
» وما بكم من نعمة فمن الله
الخميس 06 أكتوبر 2016, 15:58 من طرف أسير القافية