منتدى رحاب الكلمة
مرحبا بكم في منتدى رحاب الكلمة.أنت غير مشترك معنا سجل الآن
مجانا

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدى رحاب الكلمة
مرحبا بكم في منتدى رحاب الكلمة.أنت غير مشترك معنا سجل الآن
مجانا
منتدى رحاب الكلمة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
المواضيع الأخيرة
» اللغة العربية في يومها العالمي 18/12/2023
قراءة في قصيدة من الشعر المغربي القديم I_icon_minitimeالأربعاء 20 ديسمبر 2023, 10:55 من طرف مدير المنتدى

» العدد الثالث من مجلة " آفاق علمية "
قراءة في قصيدة من الشعر المغربي القديم I_icon_minitimeالأحد 01 أغسطس 2021, 10:21 من طرف Houcine22

» الشاعر منتميا وملتزما
قراءة في قصيدة من الشعر المغربي القديم I_icon_minitimeالأحد 14 أكتوبر 2018, 20:12 من طرف مدير المنتدى

» العرب وكرة القدم
قراءة في قصيدة من الشعر المغربي القديم I_icon_minitimeالإثنين 02 يوليو 2018, 20:10 من طرف مدير المنتدى

» الخامس من يوليو (جويلية) مجددا
قراءة في قصيدة من الشعر المغربي القديم I_icon_minitimeالإثنين 02 يوليو 2018, 19:42 من طرف مدير المنتدى

» أهلا بشهر التوبة والغفران
قراءة في قصيدة من الشعر المغربي القديم I_icon_minitimeالأربعاء 07 يونيو 2017, 11:21 من طرف أسير القافية

» لو عثرت بغلة في العراق ...
قراءة في قصيدة من الشعر المغربي القديم I_icon_minitimeالجمعة 03 مارس 2017, 20:17 من طرف أسير القافية

» مسابقة الدخول إلى مدرسة الدكتوراه بتامنغست
قراءة في قصيدة من الشعر المغربي القديم I_icon_minitimeالخميس 06 أكتوبر 2016, 16:21 من طرف أسير القافية

» وما بكم من نعمة فمن الله
قراءة في قصيدة من الشعر المغربي القديم I_icon_minitimeالخميس 06 أكتوبر 2016, 15:58 من طرف أسير القافية

بحـث
 
 

نتائج البحث
 


Rechercher بحث متقدم

سحابة الكلمات الدلالية

المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 13 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 13 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحث

لا أحد

أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 53 بتاريخ الأحد 14 أبريل 2019, 17:47
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 1352 عُضو.
آخر عُضو مُسجل هو روفي فمرحباً به.

أعضاؤنا قدموا 3419 مساهمة في هذا المنتدى في 1524 موضوع

قراءة في قصيدة من الشعر المغربي القديم

اذهب الى الأسفل

قراءة في قصيدة من الشعر المغربي القديم Empty قراءة في قصيدة من الشعر المغربي القديم

مُساهمة من طرف مدير المنتدى الخميس 07 أبريل 2011, 10:55

قراءة في قصيدة من الشعر المغربي القديم 293164



أ.علي بولنوار

لقد تغيرت النظرة إلى النص الأدبي، ومضى الزمن الذي كان ينظر فيه إلى القراءة على أساس أنها وسيلة لاكتساب المعرفة الجاهزة، فبعدما كان النص وسيلة للراحة والمتعة، ولا يزيد دور القارئ فيه على استيعاب المقروء، غدا مصدر قلق، من حيث إنه يمثل واحة، يشارك القارئ في غرس موجوداتها، يقول روبرت هولب إنّ النص الأدبي يتشكل في هيئة أو بنية «تقوم في أجزاء منها على الإبهام الناشئ عما تشتمل عليه من فجوات أو فراغات على القارئ ملؤها، ولذلك فهو في حاجة دائما إلى القارئ المنتج الذي يكمل هذا العمل ويحققه عيانياً»

أصبح مفهوم القراءة المعاصرة مفهوما ثريا يمتد من التفسير إلى التأويل، وذلك بالاكتشاف وإعادة نتاج المعرفة. وبهذا الشكل تغدو النصوص الأدبية، نصوصا مفتوحة قابلة لمستويات متعددة من القراءة تختلف باختلاف الذات القارئة.

ومما لا شك فيه أن البيئة المغربية القديمة حافلة بنصوص شعرية خصبة الدلالة غنية برموزها وإيحاءاتها. وأنها مازالت بكرا تطرح أسئلة شعريتها. وليس من الوفاء لهذا التراث أن تظل قراءتنا لهذه النصوص قراءات استيعاب لا قراءة حوار. فحوارنا لهذا التراث بآليات القراءة الحديثة يسمح لنا بإعادة اكتشاف ونتاج معرفة جديدة.

لقد كان اختياري لنص مغربي قديم انطلاقا من قناعتي بأن النص الجيد ليس حكرا على بيئة دون غيرها. فالإبداع الشعري لا يتبع بيئة بعينها ولا يستأثر به زمن دون غيره.

لقد حاولت محاورة النص من بعض جوانب أبنيته اللغوية «الأفعال»، والصورة الشعرية وكذا الموسيقية، على أساس أن هذه الخصائص تمثل شبكة متكاملة من العلائق التي ينفتح النص من خلالها.

وأشير إلى أني لم أعمل هنا على تحميل النص مالا يحتمل من تأويل أو إنشاء قراءة تتعارض مع سياقه، إنما تعاملت معه بما تسمح به أبنيته من تأويل وانفتاح في الدلالة.

الشـاعر:

هو أبو عبد الرحمن بكر بن حماد بن سهل بن إسماعيل الزناتي التهرتي. ولد في تيهرت بالجزائر سنة 200 هـ تلقى تعليمه الأول بمدينة تيهرت على مشاهير علمائها. ثم ارتحل إلى المشرق العربي سنة 217 هـ. حيث اتصل بالخليفة العباس المعتصم، كما اتصل بالشاعر دعبل بن علي الخزاعي، ثم عاد بعد ذلك إلى المغرب. ثم عاد برفقة ابنه عبد الرحمن وفي الطريق تعرض لهما لصوص فقتلوا الابن عبد الرحمن وجرحوا الشاعر وكانت هذه الحادثة سنة 295هـ. فدخل الشاعر مدينة تهرت وبقي فيها إلى أن وافته المنية سنة 296هـ.

لقد خطف الموت من الشاعر ابنه فرثاه بقصيدة يحس المرء فيها أن شعره يفيض بالوجد والشوق، نابع من قلب ممزق مملوء بالحب والأسى. لقد أثار فقد ابنه في ذاته أعمق الأسى فكانت أبياته موجعة تنبع من شعور ملتهب. خسر الشاعر ابنه في مرحلة كان في أمس الحاجة إلى مساعدته، وما يهون من خطب الشاعر المسن أنه لاحق بابنه عما قريب، فلقد توفي بعده بسنة واحدة.

يقول الشاعر:

بكيت على الأحبة إذا تولــوا






ولو أني هلكت بكوا عليا

فيا نسلي بقاؤك كان ذخــرا






وفقدك قد كوى الأكباد كيا

كفى حزنـا بأني منك خلــو






وأنك ميت وبقيـت حيـا

ولم أك آيسا فيئست لمــا






رميت الترب فوقك من يديا

فليت الخلق إذا خلقوا أطاعوا






وليتك لم تكن يا بكر شيـا

نسر بأشهر تمضي سراعـا






وتطوى في ليالهن طيـا

فلا تفرح بدنيا ليس تبــقى






ولا تأسف عليها يا بنيـا

فقد قطع البقاءَ غُروبُ شمس






ومطلعها عليا يا أخيــا

وليس الهم يجلوه نهــار






تدور له الفراقد والثريـا

استطاع الشاعر أن يعطي تصوراً دقيقاً لآلامه وأحزانه في هذه الأبيات فبكى صادقاً واستطاع أن يبكينا، فالمرثية تعبير حي عن عمق عاطفته وشدة ألمه المستمر وحتى يبعث فينا عمق المأساة راح يقابل بين زمنين متناقضين: الزمن الماضي الطويل الذي عاشه مع ابنه والزمن الحاضر المفعم بالمرارة والقساوة.

التركيب اللغوي:

الشعر نص لغوي، لكي يتشكل المعنى الشعري لابد من بناء لغوي. فالمشاعر والأحاسيس والأفكار والمعاني تظل عناصر غير شعرية، حتى تتشكل في أبنية لغوية خاصة. وأن هذه الأفكار والأحاسيس تمتزج بهذه الأبنية اللغوية وتتلاشى فيها.

والمتفحص لأبنية لغة نص بكر بن حماد على مستوى المفردات والتراكيب سوف ينتهي إلى معرفة خصوصية اللغة الموظفة.

ولعل أبرز خاصية لغوية تتمثل في طبيعة ألفاظه، فهي تنتمي إلى قاموس اللغة الكلاسيكية، وتتميز هذه اللغة بـ:

أولاً: السهولة

تتمثل السهولة في نطق الألفاظ بيسر على اللسان، وفي عدم تأثر حروفها، فهي من أبرز خصائص النص

الشعري، تساعد المتلقي على فهم النص ومشاركته مأساته.

ثانياً: البساطة

جاءت الألفاظ بسيطة مفهومة ولم تكن غريبة معقدة بحيث تفقد قدرتها على الإيحاء والتمدد في وجدان المتلقي فتخلو من حرارة التجربة ووهجها.

ثالثاً: الدقة

حتى لا تلغى مسافة التفاعل بين النص والواقع، بين الشاعر والمتلقي، وحتى لا ينفتح النص إلا على خواء ذهب الشاعر موظفا الألفاظ الأكثر دلالة على الانفعال. فألفاظه محكمة الدلالة على ما يعنيه، تبين الدقة في اختيارها، فلو قرأنا مثلا البيت الأول لوجدنا ألفاظه تمنح النص طاقات دلالية واسعة وتفتحه على ما يعنيه الشاعر فألفاظ مثل بكيت، تولوا، هلكت وبكوا جاءت بسبب دقتها راشحة بالحزن، منسجمة مع الموضوع، تمثل الكلمة المفردة صورة شعرية نابضة بالمواجع مثقلة بالأحزان.

رابعاً: الإيحاء

تقوى غربة المتلقي عن النص فيؤول النص إلى فقدان هويته بما هو نص أدبي جمالي إذا اختار الشاعر توظيف ألفاظ عبثية لا إيحاء فيها، وإيحاء اللفظة يعني إنارتها في ذات المتلقي وتمثلها تمثلا كاملا. فإذا تأملنا أبيات الشاعر نجد ألفاظها توحي بالإحساسات المأساوية وبالنظرة السوداوية التي خيمت على الشاعر بسبب ما أصابه.

خامساً: الشعرية

نعني بالشعرية السهولة والبساطة والدقة والإيحاء، وإجمالا فالكلمة الشعرية هي الكلمة الخاصة، فالشاعر بكر بن حماد لم تكن لغته لغة الإخبار والحقائق بحيث لا تتجاوز مفرداتها الدلالة على المعاني القريبة، ولا تتعدى تراكيبها الوقوع على المعاني العامة، ولا تعني صورها وأساليبها تفننا فيها أكثر مما عنته قوالبها الجاهزة وكأن الهدف الأساس الإخبار وليس الإيحاء.

لقد استمد الشاعر بكر بن حماد معجم لغته من معجم الحالات النفسي الذي يتغير بتغيير اللحظة مخترقا العلائق المنطقية والقوانين المقيدة للغة.

الأفعــال:

المعروف أن التركيب النحوي يشمل جوانب عديدة لا يتسع المقام لذكرها لذلك سأقصر حديثي عن الأفعال.

من المعلوم أن الجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستقرار، بينما تفيد الجملة الفعلية الحركة والتحول من حال إلى حال، وبما أن المقام هنا مقام وصف معاناة الذات، فلقد أكثر الشاعر من الجمل الفعلية التي هيمنت على الأبيات هيمنة تامة دلالة على عدم ثبوته واستقراره كاشفة عن أزمة حادة يعيشها بعد غياب ابنه عاطفيا وعيانيا.

تتحرك أبنية القصيدة في اتجاه حقيقة حتمية الموت، وإذا نظرنا إلى توزيع صيغة الأفعال، يبين الإحصاء أنها تبلغ 22 فعلا وباستقراء هذه الأفعال باعتبارها حركة في الزمن نلحظ أن الغلبة للأفعال الماضوية المعادلة لزمن الماضي، فهيمنتها تؤكد خضوع الحدث والرؤية لسياقه، وعدم انفصال ذات الشعر عن الماضي يوحي بتعلقه الشديد بذلك الزمن، فالماضي يصور اللحظات السعيدة التي قضاها بصحبة ابنه لما كان على قيد الحياة.

يبدأ النص بفعل (بكيت) وهذا التصدر إفصاح جاهر بحالة الحزن التي أصيب بها الشاعر، الأمر الذي تؤكده بقية الأفعال في البيت الأول، فالفعل تولوا الذي يقفل به الشطر الأول يزيدنا إحساسا بالمأساة وهول الخطب.

وتكتمل المأساوية بالفعلين (هلكت وبكوا) الواقعين في ثنايا الشطر الثاني، وبهما تخلق أو تكمل خلق لوحة تراجيدية تسيطر على المتلقي. فتوزيع الأفعال الأربعة على هذا النحو الهندسي أضفى بفنيته المتآلفة طابع الحزن العميق على الصورة التي يحملها البيت الأول وبالتالي تدل على تشتت الشاعر وعدم استقراره، وهكذا الحال مع بقية الأبيات.

وتأتي الأفعال المضارعة لإثبات حالة الحزن ونفي كل إحساس بالرضى أو الفرح عن الذات، فهذه الأفعال تعكس واقع الشاعر المفعم بالحزن والألم.

أما الأمر فقد جاء بصيغة النهي (لا تفرح، لا تأسف) وهما فعلان يحملان دلالات الحزن بحيث جيء بهما لإظهار فناء الدنيا، وهو إحساس تولد من سوداوية الشاعر ومن إحساسه بانتهاء الحياة بعد وفاة ابنه.

التركيب الصوري:

تشكل الصورة الشعرية إحدى العناصر الفعالة في إعطاء القصيدة الحيوية والحركة وتخليصها من الرتابة والجمود، فهي أداة الشاعر المثلى التي يمتلكها لتمثيل اللحظة الانفعالية والدفقة الشعورية التي تنتابه أثناء عملية الخلق والإبداع لتكون في النهاية مرآته التي تعكس ما يختبئ في روحه من أحاسيس وانفعالات، ولأن مظاهر الصورة الشعرية كثيرة فسأقف عند البعض منها والتي تخدم قصيدة بكر بن حماد.

الصورة والأشكال البلاغية:

ينظر بعض الدارسين إلى الصورة الشعرية على أنها مرادفة لجميع الطرق المجازية وهو روح العمل الشعري، من هؤلاء الدكتور إحسان عباس الذي يقول: «الصورة هي جميع الأشكال المجازية، فالاتجاه إلى دراستها يعني الاتجاه إلى روح الشعرفي حين يرى البعض الآخر العكس من ذلك. بحيث يوجد من الشعراء من تجاوز الصورة القائمة على الأشكال البلاغية وتعامل معها ـ أي مع الصورة ـ بشيء من الرحابة والسعة فأساس التعبير عن الأحاسيس العميقة في نفوس هؤلاء لا يستطيع التشبيه أو الاستعارة في التعبير عنها في أحايين كثيرة بل قد تكون الأشعار خالية من هذه وتتولد عنها صور في غاية الأهمية بل وفي منتهى الروعة والجمال، وأبيات الشاعر بكر بن حماد بعيدة عن التعبير البلاغي، ومع ذلك فهي تمتد لترسم مواقف نفسية ووجدانية من خلال صور تمور بالحركة الدائبة، يتواصل فيها السريان من العالم الخارجي إلى داخل النفس المخزونة وذلك بفضل وسائل مثيرة للوجدان، ففي هذه المرثية يظهر كيف أن فعالية الصورة تكمن المعنى في النفس عن طريق التأثير اللغوي بما تحمله اللفظة من شحنة انفعالية، فالأبيات كما هو ظاهر قائمة على إيقاع حزين دافئ بلحظة إنسانية، عملت الألفاظ على توليد سيل متدفق من المشاعر الإنسانية من ذلك قوله: «يا نسلي، ذخرا، فقدك، كوى، الأكباد، كيا، خلو، آيسا، يئست...» فهذه الألفاظ وغيرها، بما تحمله من شحنات عاطفية توحي بأن الشاعر يعيش صراعا مريرا، كما توحي أيضا بأنه يملك حسا قويا في اختيار المفردات التي تعبر عن المعنى المراد بدقة، وإيصاله إلى المتلقي بأمانة، فلقد جاءت هذه الألفاظ محكمة الدلالة على ما يعنيه الشاعر، فعبرت عن معاناته، فلكل كلمة وقع خاص على أذن السامع وتأثير في نفسه، ولكل منها شحنة من المعالم والانفعالات، فكلمة (كوى) دالة مباشرة ذات معنى واضح تشير إلى الحزن والألم وتكتسب شدتها وعمقها عندما يقول الشاعر بعد ذلك (الأكباد كيا) فرحيل ابنه كوى كبده وسبب انكسارا وتمزقا في نفسه.

الصـورة والحيـاء:

كثيراً ما نقع في أشعار لا تستوحي الصورة الشعرية فيها الإحساس الباطني في تأليفها، لذلك بقيت جامدة ملتصقة بالحس الخارجي تغازله وتقيم معه حوارية دائمة، يباركها العقل الواعي في مدركاته ويزودها بما تحتاجه. من هنا فقد كانت الصورة تعمد على التقرير وتنزع إلى التفسير أكثر مما تقصده إلى الإيحاء. فليس الغرض من الشعر الفكرة الواضحة والشعور المضبوط، فمن الروعة أن يلبس الشعر ثوبا من الإيحاء، فالشعر الجيد هو الذي يترك في نفس المتلقي شعورا بعدم الاكتفاء ويدفعه إلى الغوص في أعماق القصيدة لاستنكاه المزيد من سحرها، وإذا تأملنا الأبيات (4، 5، 6، 7، 8) نجدها توحي بالإحساسات المأساوية التي هيمنت على الشاعر، فعبر تعبير الزاهد في الحياة التي لا دوام لها، وقد حقق هذا الإيحاء ألفاظ ذات حمولة معنوية خاصة.

الصـورة والعـاطفـة:

الصورة الشعرية كما عرفها أحد الباحثين هي: «رسم قوامة الكلمات المشحونة بالإحساس والعاطفة» ويعرفها باحث آخر بقوله:

«إن العاطفة هي العنصر الثاني الذي يتوقف عليه الشعر بعد الموسيقى ولكنها لا تقل عنها أهمية لأنها بمثابة الروح من الهيكل في الشعر» وقد يبدو من الأرجح أن نقول إن العاطفة أتموسيقى نفسية ذات حركات وترجيعات كثيرا ما تبدو آثارها في جسم الإنسان بسطا وقبضا واضطرابا في تيارات الدم وحركات الأعضاء ودون شك أن هذه الأهمية اكتسبتها العاطفة من كونها تولد صورا خصبة، والمرثية التي بين أيدينا غنية بالوجدان الصادق والعواطف الجياشة والآلام، العميقة ممثلة بالصور القائمة الحزينة تتضح يأسا وألما، يتجرع الشاعر من خلالها مرارة الشعور بالرحيل والفناء، ولأن عاطفة الشاعر كانت قوية جاءت أبياته فلذات من الشعور الأليم والعاطفة الموجعة التي تتغلغل في نفوسنا حية مشحونة بكل ما يمكن أن يتجمع في قلب الشاعر من ألم الفراق وقد زاد من قوة هذه الأبيات إحساسنا بصدق عاطفة الشاعر التي تبعث في النفس الأسى والألم. لقد استطاع الشاعر منذ البداية حتى النهاية أن يعطي تصويرا دقيقا لآلامه لقد جعلنا نتصور موتنا عبر موت الآخرين، والفضل في ذلك يرجع إلى الصورة الشعرية التي تنبع من دفقات النفس المكلومة المعبرة عن موقف عاطفي متأزم.

الصورة والانسجام:

هل الدقة والإيحاء والعاطفة عناصر كافية لخلق قصيدة مؤثرة؟

مما لا شك فيه أن هذه العناصر لها جانبها الفعال في عملية الخلق الشعري إلا أن هذا لا يمنع من وجود عناصر أخرى كالانسجام مثلا فإذا كانت الصورة هي المرآة التي تعكس ما يختبئ في روح الشاعر من أحاسيس ومشاعر، فهي أيضا الأداة المثلى للخلق والابتكار فينبغي أن ندرك بأن هذه الفعالية تخضع لنظام معين، من ذلك أن الصور الجزئية ينبغي أن توفق في الارتباط بخط الشعور الكلي في القصيدة، وتكون معها نسيجا، فلا تكون مصدر قلق ورتابة وملل، كما يتطلب من هذه الصور عدم تنافر أجزائها واضطرابها داخل البيت الواحد، ينبغي أن يكون للصور وقع عذب على الأذن وهذا ما ميز أبيات شاعرنا بكر، فصوره جاءت متناسقة منسجمة ذات دلالات متعددة توحي للمتلقي بتجربة أليمة عانى منها الشاعر إثر فقده لابنه، وقد ساهمت عوامل عديدة على خلق هذا الانسجام بين صور القصيدة منها سهولة الألفاظ بحيث يسهل نطقها على اللسان فلا تعيق التواصل الذهني للصور، كذلك فقد جاءت الألفاظ قريبة مألوفة، فهي ليست غريبة تحتاج إلى قواميس لشرحها وإبانة مغزاها، ولا حوشية تذهب المعنى وتعمل على انغلاقه والذهاب به، وقد يقبل الترادف إذا كان مؤكدا، فمعنى اللفظة يقرره وضعها في الجملة وكذلك ترادفها لمجاورتها، فألفاظ البيت الأول: بكيت وهلكت وبكوا. أشاعت معنى الحزن، وأظهرت المعنى رغم قرب حروف بعضها ببعض.

التركيب الموسيقي:

الموسيقى عنصر أساس من عناصر العمل الشعري، فبواسطتها يكتسي الشعر طابعا جماليا يساعد على التأثير في نفسية المتلقي. إنها تنقل إليه التجربة الشعرية، لما لها من تأثير خاص في النفس البشرية، أشبه ما يكون السحر، والشعر الخالي من الموسيقى لهو أشبه ما يكون بالجسد الميت عديم الحركة أو الشجرة اليابسة الخالية من ماء الحياة، لهذا يرى البعض من النقاد الحد الفاصل بين الشعر والنثر هو الموسيقى، تقول إليزابيث دور: «إن الفارق الأساسي بين النثر والشعر هو الموسيقى وأن سبيلنا إلى التمييز بينها هو الأذن، ذلك أن الشعر يمتاز بزخرفة موسيقية» ويقول، إليوت «بأنه من خصائص الشعر الجديد الاحتفاظ بالموسيقى في الشعر لأنها تساعد على تصوير خلجات النفس وقت الانفعال»

والنص الشعري الذي بين أيدينا يلفتنا بإيقاعه الخارجي والداخلي. يتمثل الإيقاع الخارجي في الوزن والقافية. لقد اختار الشاعر بكر بن حماد أن ينظم قصيدته على بحر كثير الاستعمال في الشعر العربي، وهو بحر الوافر وتفعيلاته هي: مفاعلتن مفاعلتن فعولن ومعروف أن هذا البحر يمتاز باللين، يقول سليمان البستاني «الوافر ألين البحور يشتد إذا شددته ويرق إذا رققته... وفيه تجود المراثي»

ويرى عبد الله الطيب بأن هذا البحر مستمد أساسا من بحر المتقارب إلا أن نغمه ينبتر في آخر كل شطر، وهذا الانبتار شديد المفاجأة، وله أثر عظيم في نغمة الوافر لما يكسبها من رقة قوية، تنعدم في بحر المتقارب، ولأجل هذا فهو مرشح للأداء العاطفي سواء أكان ذلك في الغضب التأثر أم في الحزن

والملاحظ أن بحر الوافر لا يرد في العادة صحيحا، إذ لابد فيه من القطف (حذف السبب الخفيف مع إسكان الخامس المتحرك) فتتحول بذلك تفعيلة مفاعلتن إلى مفاعلن، وكذلك زحاف العصب (إسكان الخامس المتحرك).

فتتحول مفاعلتن إلى مفاعلين، وأيضا زحاف العقل (حذف الخامس المتحرك) فتتحول مفاعلتن إلى مفاعتن وتقلب مفاعلن. أما تفعيلة فعولن فتبقى ثابتة لا تتغير

تنتهي قصيدة بكر بن حماد بتفعيلة فعولن في جميع أشطرها، والملاحظ أن عدد المرات التي وردت التفعيلة (مفاعلتن) يكاد يساوي عدد المرات التي وردت التفعيلة، «مفاعيلن».

ولنوضح ذلك من خلال الجدول:

رقم البيت


عدد مفاعلتن


عدد مفاعلين


عدد فاعلن

1


3


1


0

2


2


2


0

3


2


2


0

4


3


1


0

5


2


2


0

6


1


2


1

7


0


4


0

8


3


1


0

9


2


2


0

يبين هذا الجدول أن الأبيات المتساوية هي:

2 ـ 3 ـ 5 ـ 9

1 ـ 4 ـ 8

وهذا التساوي في التفعيلات يعكس تشتت وقلق واضطراب الشاعر وإذا علمنا بأن التفعيلة تمثل وحدة زمنية، أدركنا إلى أي حد يتحكم الزمن في تلوين الأنغام الموسيقية داخل التفعيلة بمجرد تحررها من قيدها العروض كوحدة قياس زمنية إلى صورتها الموسيقية لتصبح نغما في السيمفونية بكاملها، هنا يزداد الفرق حتى يصبح لإيقاعات البحر الواحد مئات الأنغام.

القـافيـة:

القافية ركن أساس من أركان القصيدة في بنائها وموسيقاها، فهي لازمة إيقاعية متمثلة في تكرار صوت معين، أو لنقل هي مجموعة أصوات تتكرر في أواخر الأبيات من القصيدة، وتكرارها ذاك يشكل جزءا من الموسيقى الشعرية، فهي عنصر تطريب توحد النغم وتزيد من سحره الأخاذ.

لقد اختار الشاعر بكر بن حماد لقصيدته قافية تلائم الدفقات العميقة التي تختزنها ذاتها، وما زاد من تأثير القافية أن اختار لها رويا مناسبا، فالياء حرف مجهور، والأصوات المجهورة أوضح في السمع من الأصوات المهموسة، كما أنها ـ الأصوات المجهورة ـ توفر موسيقى فخمة تتفق مع المعنى دائما، ولقد جاءت الياء متحركة موصولة بالحركة الطويلة ـ ألف المد ـ مخرجها من أقصى الحلق، وهذا ما جعل قافية القصيدة مطلقة تساعد الشاعر على تصوير نفسه المكلومة، فالياء تنطلق من الجوف الذي ينقطع مخرجها فيه، وتنتهي بانقطاع هواء الفم، ثم يأتي المد ليجعل الصوت (الجوفي الهوائي) يمر دون أن يعترضه عائق فزفرات الشاعر بكر كانت تنبعث بصعوبة من أعماقه، وعند وصولها إلى الفم يساعدها المد على الانطلاق، لكنه انطلاق حزين كئيب، فالمد يطيل في الصوت ويحدث ثقلا، وهذا من شأنه أن يعكس الانكسار، والانهزام الذي يعيشه الشاعر.

زيادة على ذلك فقد جاء الروي مشددا، ومن خصائص التشديد أنه يضخم حالة الحزن ويشدد على أثر الفراق، وذلك لما يتميز به الحرف المشدد مع قوة وشدة، وهكذا فلقد تضافرت هذه العناصر الثلاثة، الروي، ألف المد، والشدة، ليشيع في المرثية هذا البطؤ الموسيقي الدال على توتر النفس وانكسار العواطف واستسلام المشاعر لحتم الموت وهيمنة القدر على الوجود.

لقد استطاعت القافية مع الوزن أن يشكلا إيقاعا نغميا يعزف لحنا حزينا دالا على عالم الشاعر الحزين، كما هو دال على تلك الحميمية بين الشعر والموسيقى، فهذه العلاقة هي الخيط العاطفي الرفيع الذي يقودنا إلى أسرار الموسيقى الداخلية، ومن ثمة إلى تحديد الصدق الشعوري ومستويات الحرارة العاطفية، وما إلى ذلك من الأحاسيس والمشاعر التي لا تفصح عن نفسها إلا من خلال حبس النبض العاطفي عن طريق التناغم الموسيقي المنبعث من داخل المرثية نفسها.

الموسيقى الداخلية:

لقد اتجه القراء إلى خلق حالات ومساحات واسعة من الإيحاء عن طريق موسيقى الحروف والكلمات والإلحاح عن استخدام الكلمة كدلالة وكصوت انفعالي، كما اهتموا بخلق جو من الموسيقى التصويرية المصاحبة للانفعال، وعموما فقد سعوا إلى جعل التشكيل الموسيقي يرتبط أكثر بالحالة النفسية للشاعر، من هنا برزت أهمية الموسيقى الداخلية كشكل موسيقي أقدر على الاتصال بالأحاسيس الداخلية والانفعالات النفسية.

ودون شك أن المتتبع لأبيات الشاعر بكر سوف يقف عند العديد من العناصر التي تتشكل منها الموسيقى الداخلية سأقف عند ثلاثة منها: الشدة، والمد، وتكرار الحروف.

الشـدة:

الشاعر الأصيل هو الذي يعيش التجربة وينفعل بموضوع قصيدته، وعلى قدر انفعاله تسيطر على لغته حروف دون أخرى، فالحزن مثلا يجعل الحروف الحادة المشددة أكثر سيطرة على جو القصيدة وعلى موسيقاها، وهذا ما لمسناه عند شاعرنا.

تكشف الأبيات عن مساحات حزن عميق يحتدم داخل الذات التي تعرضت إثر هذا الرحيل إلى ضرب من الانكسار النفسي ساعد على إظهاره الألفاظ المشددة مثل: الأحبة، تولوا، ميت، حيا، يديا، شيا، ليالهن، طيا، بنيا... ومعلوم أن استخدام التشديد في اللفظة يضخم حالة الحزن عند الشاعر ويشدد على أثر الفراق وتداعياته وذلك لما يتميز به الحرف المشدد من قوة وشدة. ومن السهولة إدراك القوة والشدة التي يستشعرهما المتلقي عند قراءة الأبيات، بل إن يده ستقوم بحركة لاشعورية متجمعة في شكل قبضة أو منبسطة في تصلب، مرافقة بذلك النطق بالحرف المشدد، مع ملاحظة أن هذا يضاعف عند النطق به، وعندما تتكرر العملية لعدة مرات تكتسب بتلك المشددة خصوصية موسيقية تتمثل في الإيقاع الناشئ من تكرارها ومن هذا الشكل تنشأ علاقة ذاتية بين المتلقي وبين الشدة بحيث توفر له جانبا قد لا تستطيع اللغة بكلماتها ودلالاتها بلوغه.

من هنا يمكن القول ـ وبكل اطمئنان ـ بأن الشدة تمثل ظاهرة موسيقية يمكن أن تساهم في حمل المتلقي على معايشة التجربة.

خلاصة القول فإن التشديد يتسم بأنه ذو بعدين متناميين، أولهما أنه تأكيد على واقع الحال بغرس الحقيقة القائمة في ذهن المتلقي وثانيهما، أن الشاعر يسعى إلى صب انفعالاته ومشحوناته عبر هذا المناخ الموسيقي، فكأنما هو طفل منفعل يضرب الأرض بقدميه، وتأخذ هذه الضربات الإيقاعية الثقيلة شكل ألفاظ تكثر فيها الشداة وتقوى فيها الإيقاعات الموسيقية ودون شك فإن هذا التصور هو الذي ذهب الشاعر بكر بن حماد إلى رسمه وإثباته في ذهن قارئ القصيدة معبرا بذلك عن ذاته المنهزمة.

المــد:

دون شك إنّ الإيقاع الصوتي يتحقق، بلا شك، من كثرة استخدام حروف المد التي تمثل ظاهرة صوتية بارزة، فهناك المد بالألف، والمد بالواو، والمد بالياء. وإذا تأملنا إيقاع الكلمات والحروف في أبيات القصيدة دون شك أننا سنكتشف بأن الشاعر بكر يلتمس الإيقاعات الموسيقية الطويلة ليفرغ فيها زفراته، فهو يكثر من حرف المد كثرة ملحوظة فهي تنتشر في كل بيت محدثة إيقاعا متناغما، يحس قارئ الأبيات بأن نظامها الإيقاعي يهزه ويدغدغ مساحة مشاعره ودون شعور منه يجد نفسه تحت سيطرة سحر إيقاعات الأبيات، وهذا ما يدفعنا للقول بأنه من شروط العمل الشعري الناجح أن يرتبط الإيقاع فيه بانفعال النفس ويتعامل معها وإلا تحولت الإيقاعات الداخلية إلى نوع من الزخرف الصوتي الجاف.

و ما يبين أن الشاعر بكر قد كان واعيا بقيمة حروف المد ولم يكن استخدامه لها بمحض الصدفة ذلك التوزيع الذي شمل أبيات القصيدة والذي سيظهر من خلال هذا الجدول:

البيت


عدد تكراره

1


ثلاث مرات (3)

2


ست مرات (6)

3


مرتــان (2)

4


مرتــان (2)

5


ثلاث مرات (3)

6


خمس مرات (5)

7


ست مرات (6)

8


ست مرات (6)

9


خمس مرات (5)

نجد في البيت الأول ثلاث كلمات ممدودة، وهذه دلالة على بداية سريعة في النطق، وفي الثاني نجد ست كلمات ممدودة. وهنا ينقطع الصوت السريع إعلانا من الشاعر بأن المعاناة قد اشتدت، فسمة حروف المد أنها تفرض على المتلقي قراءة الأبيات ببطء وتأن ولو أراد الإسراع ما أمكنه ذلك. وفي البيتين الثالث والرابع، تهدأ نفس الشاعر فيستخدم في كل بيت كلمتين فيهما مد، وكأنه يستريح ليعود إلى المعاناة والعذاب بعد ذلك، ففي البيت الخامس يستخدم المد ثلاث مرات وفي البيت السادس خمس مرات، وفي البيت السابع ست مرات، وفي الثامن ست مرات وفي التاسع خمس مرات، وكأن بالشاعر قد أراد بهذه الهندسة الصوتية أن يشد آذاننا وذواتنا إليه، فقارئ الأبيات سوف يشعر لا محالة بتلكم الاهتزازات النغمية التي توفرها الألفاظ الممدودة، بداية سريعة ثم بطؤ ثم سرعة فبطؤ، فهذه الهندسة تبعث على التكامل البعيد لسبرا أغوار النفس، كما تبعث في الوقت ذاته على الإحساس بالتوقف بعد كل مقطع لأخذ النفس الذي يستنفذه طوال المدات، وبهذا التوزيع للمد يكون الإيقاع كالآتي، إيقاع سريع ثم ثقيل، فسريع وسريع وسريع ثم ثقيل وثقيل وثقيل وثقيل ومن هنا يظهر أن نسبة المقاطع الثقيلة مثلت النسبة الأكثر. ونظرا لأن المقاطع الثقيلة والسريعة كانت موزعة على الأبيات بتفاوت فقد أخذت تناغما إيقاعيا مؤثرا، خصوصا وأن ترتيبها كان وفق نسق معين، فالمقاطع في تواليد حاكت ناموس الحياة فالنفس البشرية لا يمكن لها أن تدوم على حال واحدة فهي لا يمكن أن تظل متوترة غاضبة دون انقطاع بحيث تحتاج إلى فترات تستريح فيها لتعاود التوتر وبين هذه وتلك يحدث تناغم يولد رنينا موسيقيا ينسجم مع انفعال الشاعر.

وما زاد من تأثير موسيقى الأبيات الإيقاع الذي وفرته القافية الموصلة بحرف مد الألف (عليا، حيا، يدا، شيا، طيا، بنيا، أخيا، الثريا). فالشاعر بكر يحاصرنا بهذا الحرف ـ الياء ـ الذي لا يصبح حرفا عاديا وإنما يتحول في لحظة من الزمن إلى مناخ موسيقي يتجاوب مع طبيعة التجربة المعبر عنها، خصوصا وأن هذا الحرف قد جاء ممدودا فلقد حقق صوت ألف المد حرص الشاعر على تأتيه هذا البطء الموسيقي وعلى هذا النحو يؤدي الإيقاع الخارجي بفضل المد دورا بارزا في تعميق الإيقاع النفسي، وفي خلق نغمات وإيقاعات أخرى تتوازى مع الإيقاع الداخلي للأبيات.

خلاصة القول: إن هذه الأبيات اشتملت على خاصية موسيقية جوهرية تمثلت في الإيقاع الناشئ عن تساوق حروف مع الحالة النفسية الشعورية لدى الشاعر، وبالتالي فإن موسيقى الشعر لم تعد مجرد أصوات رنانة تروع الأذن ثم ينطفئ سحرها بسرعة، بل أصبحت توقيعات نفسه تنفذ إلى ذات المتلقي لتهز أعماقه في هدوء ورفق.

التكـرار:

يعد التكرار من الظواهر الصوتية التي تؤدي دورها في تعميق الإيقاع بصوتي فكل «تكرار مهما يكن نوعه، تستفيد منه زيادة النغم وتقوية الجرس»

و قد يكون التكرار على مستوى الحروف، فيتكرر أكثر من مرة في البيت الواحد. مكونا بذلك ما يشبه الضفيرة الصوتية. ونشير إلى أن «موسيقى الحرف» يقصد بها النغم الصوتي الذي يحدثه هذا الحرف وعلاقة هذا النغم بالتيار الشعوري والنفسي في مسار النص الشعري، ومن المعروف أن لكل حرف مخرجا صوتيا، ولكل حرف صفات، ومخارج الحروف وصفاتها بينها وبين دلالة الكلمة علاقة شعورية وفنية لا يعتمد الشاعر إظهارها، بل يتجسد التوافق النغمي والانسجام اللفظي تجسيدا فطريا لدى الشاعر الموهوب المتمكن من أدواته اللغوية والفنية

فمن مميزات لغة الشاعر تكرار الحرف، فبالإضافة إلى كونه وسيلة بلاغية، يزيد المعنى وضوحا يضفي على الشعر طابعا جماليا وموسيقيا متميزا، من ذلك ما نجده في أبيات الشاعر بكر بن حماد، فلقد تكرر حرف الياء بشكل لافت، ولا أظن أنه من باب المصادفة أن يتردد هذا الحرف 34 مرة. والياء حرف مجهور يمتاز بطاقة نغمية غير محدودة إضافة إلى ذلك فهو يمتاز بخفة وقلة في الجهد العضلي، فيه سهولة في النطق ولطف في الموقع، لذلك نجد إلحاح الشاعر عليه إلحاح غير عادي فلقد كانت نسبة تردده تفوق نسبة تردد أي صوت آخر.

ودون شك فإن صوتا كهذا يحظى بهذه القيمة الموسيقية لا بد أن يستهوي الشعراء ويفرغون فيه مشاعرهم، فشاعرنا هنا مهزوم لذلك راح يحاور الحرف عله يجد فيه ما لم تمنحه الحياة.

الحرف الآخر الذي كان تكراره لافتا، اللام، بحيث تكرر 25 مرة، وهو حرف مجهور يثير جوا من التوتر، ويوحي بارتفاع الصوت وحدته، فهو مرتبط ارتباطا شديدا بالعاطفة العنيفة التي تجتاح الشاعر.

ومن الحروف أيضا نذكر حرف التاء الذي تكرر 19 مرة، وهو حرف أكسب تردده لونا من الموسيقى المهموسة الشديدة، فالتاء صوت مهموس شديد ونظرا لهذه القيمة اختاره الشاعر للدلالة على العذاب والألم الذي يعاني من مرارتهما، وبالتالي فإن هذا الحرف أدل بجرسه الصوتي على حالة العذاب التي يعيشها الشاعر.

ومن بقية الحروف التي تكررت بكثرة الياء، وهو حرف له قيمة صوتية موسيقية تناسب جو القصيدة وإيقاعها

الشديد، فهو صوت شديد مجهور، يتضمن التفجر والانحباس، وهذا المعنى هو الذي أحسه الشاعر الجريح الذي يصور حياته المنتهية بعدما ودع ابنه وداعا أبديا.

فهذا الحرف يتفق مع طبيعة التجربة الشعرية التي يمكن القول عنها بأنها كانت شديدة ومجهورة، ومن ثمة فإنها تعطي موسيقى فخمة تتفق مع المعنى.

ومن الحروف الأخرى التي ترددت في أبيات الشاعر بكر، الراء، فنظرا لما يمتاز به من حدة مكبوحة تمثلها حركة التصاق اللسان بأعلى سقف الحلق عند النطق كرره الشاعر، فهو صوت صامت مجهور لثوي احتكاكي شديد، من صفاته أنه شديد الارتباط بالعاطفة العنيفة، لذلك فهو يصور هول الموقف وشدته ويناسب ما في صدر الشاعر من انفجار وألم، فتكراره يزيد في السنوات أو الجرس، وهذا من شأنه أن يخلق إيقاعا موسيقيا يهيئ المتلقي لاستقبال الفكرة وتقبلها.

الواقع أن الحروف التي تكررت كثيرا لا داعي لذكرها كلها، ونشير إلى أنه ليس في استطاعة أي إنسان أن يدرك ما يحمله تكرار بعض الأصوات من شحنات عاطفية وإيحاءات لغوية، بل إن الشاعر نفسه قد لا ينتبه في بعض الأحيان لما تحمله تلك الأصوات من شحنات عاطفية ومعنوية، وإنما تصدر عنه دون إدراك وقصد منه مما يدل على صدقه الفني والعاطفي، وإذا فالعملية ليست مقصودة بل مستلهمة بعفوية.

وفي الأخير نقول إنه رغم قصر نفس المرثية إلا أن الشاعر استطاع أن يوفر لها جوا موسيقيا عبر عن حالة صاحبها النفسية والعاطفية ربما بأبلغ ما عبرت عنه الصور الشعرية والأفكار ورسمت له منظرا حيا وهو يعايش التجربة الأليمة ويعبر عنها.

المصادر والمراجع:

1ـ تاريخ الأدب الحديث. حفني داود، دار الطباعة المحمدية، 1969.

2ـ الدر الوقاد من شعر بكر بن حماد. محمد بن رمضان شاوش. المطبعة العلوية مستغانم الجزائر، ط 1 1966.

3ـ المتوسط الكافي في علمي العروض والقوافي. الأحمدي، المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر،ط3، 1983.

4ـ المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها. عبد الله الطيب. دار الفكر بيروت لبنان ط2، 1970.

5ـ مقدمة إلياذة هوميروس. سليمان البستاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د ت.

6ـ موسيقى الشعر العربي بين والثبات والتطور. صابر عبد الدايم. مكتبة الخانجي، القاهرة،1993.

7ــ نظرية التلقي. روبرت هولب، ترجمة عز الدين إسماعيل. النادي الأدبي جدة

8ـ الصورة الشعرية. سي دي لويس، ترجمة أحمد نصيف الجنابي، مالك مبري سلمان حسن إبراهيم، دار الرشيد للنشر، الجمهورية العراقية.1982.

9ـ فن الشعر. إحسان عباس، دار الثقافة بيروت 1955.

10ـ الشعر كيف نفهمه ونتذوقه. إليزابيت درو. ترجمة محمد إبراهيم الشوش. نشر مكتبة ميمنة بيروت،1971.

11 ـ الشعر والفنون الجميلة. إبراهيم العريض، دار المعارف القاهرة، دت
مدير المنتدى
مدير المنتدى
Admin

عدد المساهمات : 889
نقاط : 7561
تاريخ التسجيل : 22/08/2009
الموقع : قـد جعلنا الوداد حتما علينــا ** ورأينـا الوفـاء بالعهد فــرضا

https://rihabalkalimah.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى